الشرق الأوسطمجتمع
أخر الأخبار

قبر يوسف.. حين يتحوّل الموتى إلى ذريعة لاحتلال الأحياء

هذا المشهد لا يخص قبرًا بحد ذاته، بل يخص منظومة كاملة تسعى لفرض إرادتها بالعنف، وإعادة هندسة الجغرافيا والسردية، حتى يصبح وجود الفلسطيني على أرضه هو الاستثناء، ووجود الغازي هو "الحق التاريخي"...

رام الله – نائل مناصرة

في قلب نابلس، لا يعود الحديث عن “قبر يوسف” مجرد نقاش ديني أو تراثي، بل يتحول إلى قنبلة سياسية تُرمى في صدر مدينة لم تتعافَ بعد من جراحها، ولا من دم أبنائها الذين يسقطون على قارعة الطرقات، دفاعًا عن الحق في الحياة، وعن المدينة كمزار أو كحجة لتمرير التوغلات العسكرية.

اثنان وستون وزيرًا وعضوًا في الكنيست الإسرائيلي، كثيرٌ منهم من أقطاب اليمين المتطرف، وقعوا على دعوة لاستعادة “الوجود اليهودي الدائم” في قبر يوسف. ومع أن النقاش يُقدّم كما لو أنه دفاع عن “ثروة تاريخية لشعب إسرائيل”، فإن الأرقام على الأرض، والوجوه في الشوارع، والأنين الصاعد من بيوت مخيمات نابلس، يروي قصة أخرى تمامًا—قصة مدينة تُستباح بذرائع دينية، وتُحاصر سياديًا، وتُستنزف روحيًا.

إن استخدام القبور كمفتاح للعودة ليس سلوكًا روحانيًا، بل تكتيك استعماري قديم: لا يقتحمون المدن وهم يحملون الزهور، بل يدخلونها بالدبابات، ثم يكتبون على جدرانها “هنا دُفن نبيّنا”. أي عبث هذا الذي يجعل من القبور أداة للحياة السياسية، في حين لا يستطيع أهل المدينة أن يزوروا أحياءهم بسلام، أو أن يصلوا في مساجدهم دون رعب من اقتحام؟

لعلّ المثير للدهشة أن هذه “الدعوة” تأتي في وقتٍ تشهد فيه المدينة تصعيدًا أمنيًا متواصلًا، وقتلًا شبه يومي، وهدمًا للمنازل، واستهدافًا للمخيمات، خاصةً “بلاطة”، حيث يقع “قبر يوسف”. فهل يمكن فهم هذه الخطوة إلا باعتبارها استفزازًا جديدًا، يُراد به تثبيت الرواية الصهيونية في الوعي العام، وتحويل “الحق التاريخي” المزعوم إلى حضور عسكري دائم، يقضم السيادة الفلسطينية أكثر فأكثر؟

نابلس، بكل ما فيها من جبال وتاريخ وشهداء، ليست مجرد نقطة على خارطة التفاوض أو الالتفاف. هي مدينة فلسطينية حيّة، يُولد فيها الأطفال في ظل القصف، وتُقام فيها الجنازات على أعتاب المدارس، وتُروى شوارعها بدماء الشبان الذين لا يعرفون “اتفاقية أوسلو”، لكنهم يدركون جيدًا ما يعنيه أن يُطردوا من أحيائهم أو يُقتحم بيتهم باسم “التاريخ”.

الإنسان الفلسطيني في نابلس لا يملك رفاهية الانشغال بالتفاصيل القانونية لما وقّعته أوسلو أو رفضته. هو يعيش الواقع بكل فصوله العنيفة. فهل يُعقل أن تكون القبور محلًّا لوجود دائم، بينما أحياء الفلسطينيين نفسها تُسلب منهم، وتُحاصر بالجدران والجنود؟

هذا المشهد لا يخص قبرًا بحد ذاته، بل يخص منظومة كاملة تسعى لفرض إرادتها بالعنف، وإعادة هندسة الجغرافيا والسردية، حتى يصبح وجود الفلسطيني على أرضه هو الاستثناء، ووجود الغازي هو “الحق التاريخي”.

في النهاية، ربما علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا لا تُبنى السياسات على حياة الناس، بدلاً من أن تُبنى على قبور الأنبياء؟ ولماذا تُستخدم أماكن الموت لإعادة إنتاج سياسات الموت، بدلاً من أن تكون فرصة لسلامٍ يعيد الاعتبار للأحياء؟

https://anbaaexpress.ma/cl98q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى