الشأن الإسبانيسياسة
أخر الأخبار

سبتة ومليلية.. بين التوجس الإسباني وصعود المغرب الجيوسياسي ” تحليل”

هذه الخطابات الشعبوية، التي تراهن على اللعب بورقة القومية والحدود، تستثمر في أي تحول مغربي، اقتصاديا كان أو دبلوماسيا، باعتباره "خطرا وجوديا"، مما يعيد إنتاج خطاب استعمار قديم في قوالب يمينية معاصرة..

في توقيت لا يخلو من دلالة، خرج رئيس هيئة أركان الجيوش الإسبانية، الأميرال تيودورو إستبيان لوبيث كالديرون، يوم الأربعاء 9 يوليوز، بتصريح حمل أكثر من رسالة، حين استبعد بشكل قاطع ما وصفه بـ”فرضية الغزو المغربي لسبتة ومليلية (المحتلتين)”، وهو التعبير الذي لم يأتِ من فراغ، بل جاء ليعكس حجم التوتر المتصاعد داخل العقل الأمني الإسباني تجاه الجنوب، في ظل تغير موازين القوى، ووعي متزايد في المغرب بأن استعادة المدينتين المحتلتين لم تعد قضية مؤجلة، بل أفقًا تاريخيًا يقترب بثبات.

كلام كالديرون بدا في ظاهره مطمئنا للرأي العام الإسباني، لكنه في باطنه كان يعكس قلقًا عسكريًا متجذرًا داخل دوائر القرار في مدريد، خاصة وأنه جاء في سياق تغذية متواصلة لخطابات الخوف من قبل أحزاب يمينية متطرفة، وعلى رأسها حزب “Vox”، الذي لا يفوت فرصة دون التلويح بما يسميه “التهديد المغربي”.

هذه الخطابات الشعبوية، التي تراهن على اللعب بورقة القومية والحدود، تستثمر في أي تحول مغربي، اقتصاديا كان أو دبلوماسيا، باعتباره “خطرا وجوديا”، مما يعيد إنتاج خطاب استعمار قديم في قوالب يمينية معاصرة.

التصريح العسكري لم يكن مجرد رد على هذا الخطاب، بل كان في حقيقته محاولة لتأطير القلق داخل مؤسسات الدولة الإسبانية نفسها، إذ أشار الأميرال إلى أن المعطيات الديموغرافية والاقتصادية الحالية تضمن “أمن واستقرار” سبتة ومليلية لخمسة عشر عامًا مقبلة، وهي فترة ربطها بزيادة ميزانية الدفاع الإسبانية، في إشارة إلى رهان المؤسسة العسكرية على الوقت والإنفاق العسكري كعناصر استراتيجية لاحتواء ما يعتبر “خطرًا صامتا”.

لكن المفارقة أن هذه التطمينات تأتي في وقت سبق فيه للأميرال نفسه أن شكل في أبريل الماضي لجنة عسكرية خاصة مكلفة بتقييم “التهديدات القادمة من الجنوب”، أي من المغرب، سواء داخل التراب الإسباني أو خارجه، وهو ما قرأه كثير من المراقبين كتحول نوعي في العقيدة الدفاعية الإسبانية، وتعبير عن قلق صامت بدأ يتحول إلى تخطيط استباقي، خاصة في ظل تمدد الحضور المغربي في إفريقيا، وتنامي تأثيره في ملفات الأمن والهجرة والطاقة.

الأميرال تيودورو إستبيان لوبيث كالديرون

في المقابل، اختار المغرب أن يرد بالصمت المتزن، لا من باب الضعف أو التردد، بل لأن منطق الدولة لا يقاس بردود الأفعال، بل ببناء المواقف. المغرب لم يصدر أي تعليق رسمي على هذه التصريحات، لكنه يواصل سياسة خارجية وداخلية تؤسس لمرحلة ما بعد “الجمود السيادي”، إذ لم تعد سبتة ومليلية مجرد نقطتين رماديتين في خريطة مستعمرات ما قبل الاستقلال، بل أصبحتا رمزا لوعي وطني متصاعد بأن استكمال السيادة الترابية لم يعد ترفا سياسيا، بل ضرورة تاريخية يفرضها السياق الجيوسياسي المعاصر.

والمثير في هذا التوازي بين الخطاب العسكري الإسباني وخطاب اليمين المتطرف، أن كليهما يلتقي ، ولو من زوايا مختلفة، عند نقطة القلق من المستقبل.

المؤسسة العسكرية ترى أن التحديات قادمة، لكنها قابلة للاحتواء عبر التحديث والتسلح، أما الأحزاب الشعبوية فتدفع نحو سياسة وقائية هجومية، تجعل من المغرب العدو الضروري لتبرير مواقفها الانتخابية المتطرفة.

لكن الحقيقة التي يتهرب منها الطرفان، أن المغرب لم يعد كما كان، لا سياسيا ولا استراتيجيا. لم يعد ذلك الجار الصامت، بل بات رقما إقليميا يراكم الإنجازات على أكثر من واجهة، من العمق الإفريقي إلى العلاقات مع واشنطن وباريس وبروكسل ولندن وموسكو وبكين، مرورا بتقدمه في مجالات الطاقة والأمن والدبلوماسية.

سبتة ومليلية، من هذا المنظور، لم تعودا فقط موضوعا للجدل التاريخي، بل صارتا اختبارا لمفهوم السيادة ذاته في القرن الواحد والعشرين، حيث لم تعد الجغرافيا وحدها كافية لضمان السيطرة، بل أصبحت مشروعية المطالب ومكانة الدول في النظام الدولي تلعب دورا أكبر.

لذلك فإن رهان المغرب على المسار السياسي والقانوني والدبلوماسي ليس خيارا تكتيكيا، بل جزء من استراتيجية طويلة النفس، تتقن استخدام الزمن كأداة من أدوات استعادة الحق، دون سقوط في العنف أو المهاترات.

وفي ظل هذه الدينامية، قد تجد مدريد نفسها مستقبلا أمام معادلة لم تكن تتصورها: إما الانخراط في حوار واقعي عقلاني يعيد تعريف العلاقة مع الجنوب، أو الاستمرار في إنتاج خطاب الخوف، وهو خيار قد يرضي اليمين لفترة، لكنه سيضعف الموقف الإسباني في النهاية أمام شرعية مغربية تتعزز داخليًا وخارجيًا.

هكذا تبدو تصريحات الأميرال الإسباني جزءا من لحظة تاريخية تتجاوز مجرد التطمين العسكري، لتكشف عن ارتباك بنيوي في التعامل مع جغرافيا سياسية تتحرك، وعن بداية وعي أوروبي بأن الجنوب لم يعد حديقة خلفية، بل شريكا قادما بشروطه، ورؤيته،  وذاكرته التاريخية التي لم تعد تقبل النسيان.

https://anbaaexpress.ma/5xynv

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى