إن الخطاب الملكي السامي، الذي وجهه جلالة الملك محمد السادس إلى الشعب المغربي، بمناسبة عيد العرش المجيد لسنــة 2025، لا يقرأ بوصفه مجرد حدث ظرفي أو تقليد سنوي، بل يستدعي مقاربة تعكس وعيا بمكانة هذه الخطب كمرآة لتطور النسق السياسي الوطني، وكموجه استراتيجي لمسار الدولة في علاقته بمؤسساته ومجتمعه.
إنه خطاب يتجاوز سطح التعبير السياسي ليتخذ موقع الوثيقة التعاقدية، ذات الطابع الرمزي والدستوري، التي تجدد معاني البيعة، وتعيد إنتاج العلاقة بين الملك والشعب، لا على مستوى الشكل فقط، بل على مستوى الرؤية المشتركة لمستقبل الأمة .
فالملكية، كما أرساها الدستور المغربي، ليست مؤسسة رمزية بالمعنى الشكلي، بل هي مركز استقرار، وضامن لاستمرار الدولة، وفاعل مباشر في صناعة التوجهات الاستراتيجية الكبرى، الأمر الذي يمنح لخطاب العرش بعدا يتعدى الإطار البروتوكولي نحو مضمون سياسي وقانوني متكامل، يعكس التزام رأس الدولة ليس فقط بتشخيص واقع البلاد، بل بصياغة معالم مستقبلها من موقع القيادة الرشيدة .
ولأن السياق لا ينفصل عن المضمون، فإن الخطاب جاء في لحظة تتسم بتقاطع عميق بين تحديات الداخل وتوترات الخارج. فمن جهة، أُعلن عن نتائج الإحصاء العام للسكان لسنة 2024، الذي لم يكتف بتقديم صورة ديمغرافية للبلاد فحسب، بل أفرز مؤشرات دقيقة حول تحولات البنية المجتمعية، ومظاهر التفاوت، وإشكالات التنمية المجالية، ما يفرض مراجعة شجاعة للمنظومة العمومية، وفق مقاربة ترتكز على العدالة لا المساواة المجردة. ومن جهة أخرى، يندرج هذا الخطاب في زمن إقليمي ودولي موسوم بتسارع الاضطرابات الجيوسياسية، وتغير موازين النفوذ، وتزايد الضغوط المناخية والاقتصادية، مما يستدعي يقظة الدولة، وترسيخ مبدأ السيادة المرنة، القادرة على التفاعل مع الخارج دون التفريط في ركائز الداخل .
إن هذه اللحظة المزدوجة، بما تحمله من رهانات وتحديات، منحت للخطاب طابعه المتزن، حيث لا انفعال ولا انبهار، بل حكمة في التشخيص، ووضوح في التوجيه، وتوازن بين منطق الدولة ومنطق المجتمع. وهي خصائص تعكس، في جوهرها، مدرسة القيادة الملكية المغربية، التي لا تراهن على الخطابات العاطفية، ولا تغامر بالقرارات الارتجالية، بل تشتغل بنفس استراتيجي طويل، مؤطر برؤية مستقبلية تدمج النمو في معناه الكمي، مع الكرامة في معناها الاجتماعي .
إن جلالة الملك، في هذا المقام، لا يخاطب فقط الحاضر، بل يؤسس لفهم عميق لطبيعة الدولة المغربية ككيان سياسي وتاريخي متجدد، لا يتوقف عند مراكمة الإنجازات، بل يعيد النظر في نتائجها باستمرار، ليعيد توجيهها نحو ما هو أكثر عدالة وإنصافا وشمولا.
ومن ثم، فإن الخطاب ليس مجرد حصيلة لتقارير رسمية، بل هو لحظة سيادية تتجلى فيهــا إرادة الدولة، كما يصوغها قائدها الأعلى، في أدق أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
بهذا المعنى، يشكل خطاب العرش لعام 2025 خارطة ذهنية للدولة المغربية وهي تدخل مرحلة جديدة من تاريخها، تتطلب فهما دقيقا للتحديات، وتموقعا متزنا في عالم شديد التقلب، وأساسا تعاقديا بين الحاكم والمحكوم، لا تقاس قوته بالوعود، بل بصدق الالتزام، ورجاحة التقدير، ونبل المقصــد .
الاستقرار كمقدمة للتنمية والاقتصاد كرافعة للسيادة :
في متن الخطاب الملكي السامي، احتلت قضية التنمية الاقتصادية الشاملة مكانة محورية، ليس فقط باعتبارها موضوعا تقليديا في أدبيات خطاب الدولة، ولكن لأنها أصبحت اليوم ضرورة وجودية في سياق عالمي يضع معايير الصعود والانحدار وفق مؤشرات النجاعة الاقتصادية، ومتانة البنية الإنتاجية، ومستوى الاندماج في سلاسل القيمة العالمية. ولعل ما يضفي على هذه المحطة من الخطاب قيمة استراتيجية، هو أنها تقدم التحول التنموي المغربي ليس بوصفه مكسبا ظرفيا، بل كنتيجة طبيعية لاختيارات كبرى اتخذت بعقل استراتيجي، وإرادة سياسية عليا، وتدبير مؤسسي رصين .
لقد أكد جلالة الملك، بنبرة حاسمة، أن ما راكمه المغرب من مكتسبات لم يكن وليد الصدفة، ولا ثمرة انتعاش اقتصادي عابر، بل هو ثمرة مسار تراكمي قائم على الاستقرار السياسي والمؤسسي، الذي أصبح في حد ذاته ميزة نادرة في محيط إقليمي مضطرب، حيث لم تعد الدول تقاس فقط بما تنتجه، بل بما تحققه من توازن داخلي ووضوح في الرؤية والقيادة. فالاستقرار، كما يفهم في هذا السياق، ليس غياب الصراع فحسب، بل هو إطار عام من الثقة المؤسساتية، واستمرارية السياسات العمومية، وتماسك الرؤية الوطنية، وهي عناصر ضرورية لأي مشروع اقتصادي يتطلب نفسا طويلا واستثمارات ضخمة ومخاطر محسوبة.
وقد اتخذ جلالته من لغة الأرقام أداة لإثبات هذا التحول النوعي، في إشارة إلى ارتفاع الصادرات الصناعية بأكثر من الضعف منذ سنة 2014، وهي معطيات ذات دلالة اقتصادية عميقة. فالصادرات الصناعية، بخلاف الصادرات الخام أو الفلاحية، تدل على تطور قاعدة الإنتاج الوطني، وانتقاله من اقتصاد ضعيف إلى اقتصاد منتج ومهيكل، متصل بديناميات العولمة. والأهم من ذلك أن هذا الارتفاع لم يشمل قطاعات تقليدية، بل تركز أساسا على ما سماه جلالته “المهن العالمية للمغرب”، في مقدمتها قطاع صناعة السيارات، وصناعة الطيران، والطاقات المتجددة، وهي قطاعات تتطلب تقنيات عالية، ونقل للمعرفة، واستثمارا في الرأسمال البشري، مما يبين أن التحول الاقتصادي المغربي ليس فقط كميا، بل كيفيا كذلك .
وتزداد قوة هذا المسار حينما نضعه في إطاره الجغرافي والسياسي، فالمغرب لم ينجح فقط في تطوير نسيجه الصناعي، بل استطاع أن يربط اقتصاده بأزيد من ثلاثة ملايير مستهلك في العالم، عبر شبكة من اتفاقيات التبادل الحر المتقدمة، التي منحت له وضعية الدولة الرائدة على مستوى انفتاح السوق، وتنوع الشركاء التجاريين، وتعدد مصادر التدفق المالي والاستثماري. وهو تموقع استراتيجي يعكس ليس فقط ذكاء اقتصادي، بل أيضا وضوح في الرؤية السيادية للسياسات الخارجية الاقتصادية، التي باتت تعتبر السوق العالمية امتدادا للمجال الحيوي الوطني.
أما على مستوى البنيات التحتية، فقد أبرز الخطاب الملكي أن المشاريع الكبرى لا تزال تتوالى وفق منطق الاستمرارية والرؤية البعيدة المدى، وعلى رأسها مشروع تمديد خط القطار فائق السرعة من القنيطرة إلى مراكش، وهو مشروع لا تتوقف دلالته عند البعد التقني أو اللوجستيكي، بل يدخل ضمن منطق التأهيل المتوازن للمجال الوطني، وتقليص الفوارق الجغرافية، وتكريس النمو الاقتصادي الجهوي .
وليس أقل أهمية من ذلك، هو إطلاق مشاريع مهيكلة في مجالات الأمن الغذائي، والسيادة الطاقية، واستدامة الموارد، وهي أوراش لا تندرج فقط ضمن رهانات التنمية، بل أصبحت اليوم جزءا لا يتجزأ من مفاهيم الأمن القومي الحديث. فالعالم ما بعد الأزمات أصبح يعيد ترتيب أولوياته، ويضع الأمن السيادي متعدد الأبعاد في صلب السياسات الوطنية. وانخراط المغرب في هذا التوجه يعكس وعيا استراتيجيا مبكرا، يعامل الأمن الطاقي والغذائي والمائي باعتباره ركائز وجودية لا تقل شأنا عن السيادة الترابية أو الاستقرار السياسي .
وبالتالي، فإن جلالة الملك لم يقدم مجرد عرض لحصيلة اقتصادية، بل رسخ من خلال هذا المحور وعيا سياديا جديدا يقوم على تقاطع الاقتصاد بالسياسة، وربط التنمية بالاستقرار، واستثمار الاستقرار في بناء مقومات الدولة الصاعدة. إنها دعوة لكل الفاعلين، في الدولة والمجتمع، للإيمان بأن التنمية ليست مجرد تراكم في الناتج الداخلي الخام، بل هي في جوهرها مشروع سياسي وأخلاقي، لا يكتمل إلا حين يكون في خدمة الإنسان والمجال والسيادة في آن واحد .
العدالة المجالية والتنمية البشرية كقلب نابض لكل تحول وطني رصين :
في لحظة تتسم بوضوح المقصد وسمو الرؤية، وضع جلالة الملك محمد السادس نصره الله، التنمية في موضعها الصحيح، باعتبارها ليست غاية في ذاتها، وإنما وسيلة لضمان الكرامة الإنسانية، ومجالا لتجسيد التوازن بين شرعية الإنجاز وواجب الإنصاف. فقد عبر جلالته، عن رفضه العميق لأي مشروع تنموي يقاس فقط بمؤشرات الاقتصاد الكلي، دون أن تكون له آثار ملموسة على واقع المواطن، أينما وجد، وعلى أي مستوى اجتماعي كان.
إن ما يُفهم من هذا التوجيه الملكي ليس مجرد انتقاد لأداء السياسات الاجتماعية، بل هو في جوهره تصحيح جوهري لمفهوم التنمية نفسه، يعيدها إلى أصلها الإنساني والأخلاقي، بعيدا عن المقاربات الكمية التي قد تراكم الأرقام دون أن تلامس الحياة اليومية للناس. فالخطاب، هنا، يكرس فلسفة تنموية قائمة على الوظيفة الاجتماعية للاقتصاد، ويقطع مع النموذج الذي يجعل من النمو غاية مستقلة عن العدالة التوزيعية .
ولم يكن التطرق إلى نتائج الإحصاء العام للسكان لسنة 2024 تفصيلا عرضيا أو إخبارا رقميا، بل جاء ضمن رؤية عميقة تقرأ الواقع من خلال مؤشراته، لا للوقوف عندها، بل لتجاوز اختلالاتها. فبالرغم من الانخفاض المسجل في معدل الفقر متعدد الأبعاد من ٪11,9 سنة 2014 إلى ٪6,8 سنة 2024، وهو تطور إيجابي، فإن جلالته لم يتوقف عند الإنجاز، بل تجاوز ذلك إلى التنبيه إلى استمرار مواطن الهشاشة، لاسيما في العالم القروي، حيث لا تزال البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية دون مستوى ما تقتضيه الكرامة المنشودة.
وفي ذات السياق، أشار الخطاب إلى تجاوز المغرب لعتبة مؤشر التنمية البشرية نحو فئة الدول ذات التنمية المرتفعة، وهو أمر له رمزيته ومغزاه، لكنه لم يقدم كذريعة للاكتفاء أو التراخي، بل كخطوة ينبغي أن تترجم على أرض الواقع بمزيد من المجهودات، لأن القيمة الحقيقية لأي تنمية لا تقاس بموضع الدولة على سلم التصنيفات الدولية، بقدر ما تقاس بمدى شعور مواطنيها بالعدالة والإنصاف .
وقد جاءت عبارة “لا مكان لمغرب يسير بسرعتين” في هذا السياق، لا كجملة خطابية عابرة، بل كتعهد سيادي صريح يفكك مشروعية أي واقع يتسم بالتفاوت المجالي، ويؤسس لضرورة إحداث قطيعة مع دينامية التمركز والتفاوت التي ظلت تطبع السياسة المجالية لعقود. فهذا القول الموجز يحمل في طياته عمقا دستوريا، لأنه يعيد التأكيد على وحدة الدولة، وعدالة التنمية، وتكافؤ الفرص بين مواطنيها دون ميز مجالي أو اجتماعي .
ومن ثم، فإن الخطاب، في هذا المحور، لم يكتف بتشخيص الفوارق، بل دعا إلى تحول في الفلسفة التنموية نفسها، من مجرد تعميم للبرامج الاجتماعية، إلى مقاربة عادلة، تتأسس على الإنصات للواقع، وتستهدف تقليص الفجوات الجهوية، وتحقيق التوازن المجالي بوصفه أحد شروط استقرار الدولة وتماسك المجتمع.
وما يتولد عن هذا التوجه الملكي، من منظور قانوني واستراتيجي، هو أن العدالة المجالية أصبحت عنصرا تأسيسيا ضمن مفهوم الشرعية التنموية، لا يقل قيمة عن المؤشرات الاقتصادية التقليدية، ولا يقل وزنا عن رصيد الإنجاز في البنية أو الاستثمار. إنها رسالة مضمرة، لكنها شديدة البلاغة، مفادها أن السلطة، في منطقها الحديث، لا تمارس فقط من خلال التشريع أو القرار، بل أيضا من خلال العدل في توزيع ثمار التنمية، وتوجيهها نحو حيث الحاجة أشد، والفجوة أوسع .
إرساء نموذج تنموي متكامل عبر الجهوية المتقدمة والتضامن المجالي :
لقد جاء الخطاب الملكي ليؤكد ضرورة التخلي عن المقاربات التنموية التقليدية، التي لم تعد قادرة على مجابهة التحديات المتجددة والمعقدة، وتقديم نموذج مستنير للتنمية المجالية المندمجة، التي تراعي الخصوصيات المتنوعة لكل جهة، وتستثمر الإمكانات المتوفرة فيها بكفاءة وفاعلية .
ويقوم هذا النموذج الجديد على أربعة محاور جوهرية تمثل لبنات استراتيجية للنهضة الشاملـــة :
أولا : دعم التشغيل الجهوي عبر تفعيل المؤهلات الاقتصادية المحلية، وتهيئة مناخ استثماري ملائم يمكن الفاعلين من الإسهام الحقيقي في تحقيق النمو، وهو ما يعكس إدراكا رصينا بأن التنمية المستدامة لا تتحقق إلا عبر مشاركة فاعلة من الجميع وبمقاربة قاعدية .
ثانيا : تحسين الخدمات الاجتماعية، خاصة في قطاعي التربية والصحة، بما يكرس مبدأ العدالة المجالية ويصون كرامة الإنسان، حيث لا تنمية حقيقية بدون تمكين المواطن من أسس العيش الكريم والحقوق الأساسية.
ثالثا : تبني تدبير مستدام للموارد المائية، في ظل تفاقم آثار الإجهاد المائي وتغير المناخ، مما يعكس وعيا عميقا بضرورة الحفاظ على الموارد الوطنية الحيوية، وضمان أمنها للمستقبل .
رابعا : إطلاق مشاريع التأهيل الترابي المندمجة، المتناسقة مع المشاريع الوطنية الكبرى، من أجل تحقيق توازن جغرافي وتنموي يقطع مع التفاوتات الحادة ويعزز التضامن بين المناطق .
إذ يؤسس الخطاب لمفهوم جديد للتنمية الوطنية، يرتكز على الجهوية المتقدمة كإطار شامل للتخطيط والتنفيذ، ويعزز من التكامل والتضامن المجاليين كركيزة أساسية لتقليص الفوارق، وخلق مغرب موحد يسير في مسار التنمية بشكل قوي وثابت .
إعادة الاعتبار للمؤسسات التمثيلية وتكريس الشرعية الانتخابية :
ضمن نسق متماسك من التوجيهات الملكية التي تدمج السياسي بالتنموي، أولى الخطاب الملكي السامي أهمية خاصة للاستحقاقات السياسية المقبلة، وفي مقدمتها الانتخابات التشريعية المزمع تنظيمها في موعدها الدستوري والمتمثل عمليا في 2026. فقد جاءت الإشارة إلى هذا الموعد لا بوصفه مجرد محطة إجرائية دورية، بل كحدث دستوري مؤسس، يجسد مبدأ التداول الديمقراطي، ويمنح الحياة السياسية ديناميتها وشرعيتها المتجددة .
وفي هذا الصدد، أكد جلالة الملك، بمنتهى الوضوح، على ضرورة الإعداد الجيد لهذا الاستحقاق الوطني، وفق ما تقتضيه قواعد الدستور وضوابط القانون، مع التشديد على أهمية وضوح الإطار التنظيمي المؤطر للعملية الانتخابية قبل نهاية السنة الجارية. وهو تأكيد لا يخلو من دلالة سياسية عميقة، مفادها أن الاستحقاق الانتخابي لا يقاس فقط بمخرجاته، بل بمدى احترام شروطه المبدئية، وعلى رأسها الشفافية، والمصداقية، وتكافؤ الفرص .
وقد جاء تكليف وزير الداخلية بفتح مشاورات موسعة مع مختلف الفاعلين السياسيين ترجمة عملية لهذه الإرادة الملكية، وتعبيرا عن التزام مؤسسة الملكية بضمان مناخ سياسي سليم، ينأى عن الارتجال، ويقطع مع منطق الظرفيات أو الحسابات الضيقة. إن هذه المشاورات لا ينبغي فهمها من زاوية تدبير تقني للإعداد، بل من منظور أعمق يتمثل في السعي إلى تجديد الثقة في المؤسسات التمثيلية، وتعزيز مصداقية المسار الانتخابي كمدخل أساسي لتقوية البناء الديمقراطي .
ومن زاوية التحليل السياسي والدستوري، يمكن القول بأن هذه الإشارة الملكية تشكل تثبيتا لمبدأ ربط المسؤولية السياسية بالمساءلة الشعبية، من خلال صناديق الاقتراع، كما تؤكد على أن الملكية الدستورية، في إطار الفصل بين السلط، لا تلغي دور الأحزاب، بل تحثها على الارتقاء بأدائها، والانخراط الفاعل في تأهيل الحقل السياسي، وتجديد علاقة المواطن بالمؤسسة المنتخبة .
فالرهان اليوم، كما عكسته نبرة الخطاب، ليس فقط تنظيم انتخابات وفق جدول زمني مضبوط، بل تنظيمها وفق منطق سياسي نزيه، يؤسس لتعاقد جديد بين المواطن والمؤسسات، ويعيد للعملية الانتخابية وظيفتها الجوهرية كآلية لإنتاج الشرعية، وتجديد النخب، وتعزيز سيادة القانون .
ثبات الموقف تجاه الجزائر وترسيخ مرجعية الحكم الذاتي :
في بعده الجهوي والدبلوماسي، عاد الخطاب الملكي السامي ليؤكد، بمنتهى الاتزان والوضوح، على ثبات موقف المغرب تجاه العلاقات مع الجزائر، مذكرا بأن اليد الممدودة لم تكن يوما موقفا ظرفيا، بل توجها مبدئيا نابعا من إيمان راسخ بوحدة الشعوب المغاربية، وضرورة تجاوز الاعتبارات السياسية الضيقة من أجل بناء مستقبل مشترك قائم على الاحترام المتبادل والتكامل الإقليمي.
فالمغرب، كما أكد جلالة الملك، يقابل التباعد السياسي بالإرادة الصادقة في الحوار، ويتعامل مع لحظات الجمود بعقل الدولة، لا بردود الأفعال. وقد تم تجديد التأكيد على استعداد المملكة لفتح صفحة جديدة قائمة على الحوار الأخوي والمسؤول، في مقاربة تؤمن بأن الوقت لا ينبغي أن يهدر في ترسيخ القطيعة، بل في استثمار المشترك الإنساني والتاريخي بين الشعبين الشقيقين.
ولأن الخطاب الملكي ليس مجرد تعبير عن نوايا، بل هو إعلان عن تموقع دبلوماسي متكامل، فقد جاءت الإشارة إلى قضية الصحراء المغربية لتجدد تمسك المغرب، بشكل لا لبس فيه، بـمبادرة الحكم الذاتي كمرجعية حصرية لحل النزاع المفتعل، باعتبارها مقترح واقعي وجدي، وذي مصداقية، يحظى بقبول متزايد في المنتظم الدولي.
وقد عزز الخطاب هذا التوجه من خلال الإشارة إلى موقفي المملكة المتحدة وجمهورية البرتغال، اللتين أعلنتا دعمهما الصريح للمبادرة المغربية، وهو ما يترجم تنامي الاعتراف الدولي بالطابع الجاد والمسؤول للمقترح المغربي، واتساع دائرة الدول المؤمنة بأن الحل لا يكون إلا في إطار سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية.
وليس من المبالغة القول إن هذا التراكم الدبلوماسي، الذي ترسيه الرؤية الملكية الهادئة والمستقرة، يعيد صياغة ميزان الشرعية في هذا الملف، وينقل النقاش من منطق التنازع السياسي إلى منطق البحث عن حل واقعي وتوافقي يحفظ ماء وجه الجميع، وينسجم مع قواعد القانون الدولي ومبادئ السلم الإقليمي.
إن جوهر الرسالة الملكية في هذا المحور هو أن المغرب، الواثق في عدالة قضيته، ينفتح على المستقبل من موقع القوة الهادئة، والشرعية المتجذرة، واليد الممدودة التي ترى في الاتحاد المغاربي أفقا ضروريا، لا وهما مجازفا أو حلما تجاوزته شروط العصر. وهو بذلك يجمع بين صرامة الموقف السيادي، ورحابة الأفق الاستراتيجي، في توازن دقيق لا يبلغه إلا من يجمع بين الشرعية التاريخية والبصيرة السياسية .
يمثل خطاب العرش لسنة 2025 وثيقة توجيهية بليغة، تتجاوز المنطق المناسباتي لتؤسس لرؤية استراتيجية عاقلة، تعيد ترتيب الأولويات الوطنية بمنطق جامع بين التنمية والعدالة، بين السيادة والانصاف المجالي..
فقد أكد جلالة الملك، في لغة رزينة وحازمة، أن صعود المغرب لا يُقاس بالمؤشرات الاقتصادية فقط، بل بمقدار ما يُترجم إلى عدالة اجتماعية ومجالية حقيقية .
الخطاب وجه رسائل واضحة لكل الفاعلين، دعاهم فيها إلى الانخراط الواعي والمسؤول في مشروع وطني متكامل، يجعل من العدالة ركيزة للتنمية، ومن التوازن المجالي شرطا للشرعية المؤسساتية..
إنه خطاب يؤسس لتعاقد جديد بين الدولة والمجتمع، قوامه التكامل بدل الازدواجية، والمواطنة المنتجة بدل الانتظارية.