د. بشري إكدر
استهلال:
وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس خطابا ملكيا ساميا إلى الشعب المغربي احتفاء بالذكرى السادسة والعشرين لاعتلاء الملك العرش مساء الثلاثاء 29 يوليوز 2025.
في سياق الذكرى:
تعتبر هذه السنة الأولى بعد مرور ربع قرن/اليوبيل الفضي الذي مر قبل عام على اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش.
وقد استعرض جلالته في بداية الخطاب الملكي سياق الذكرى التي ترمز لترسيخ الاستمرارية في ظل المشروعية، التي يؤطرها الدستور في علاقة الملك بالشعب عبر رباط البيعة، وتقوم على دولة المؤسسات التي تضم بنية مؤسساتية واضحة المعالم، وتستمد العلاقة بين الملك والشعب قوتها ورسوخها من روابط دينية وتاريخية.
على مستوى الشأن الاقتصادي/التنموي:
كان لافتا أن يسلط الملك الضوء على الشأن الاقتصادي/التنموي قبل غيره.
فقد بسط ملك البلاد في خطاب العرش تقييما موضوعيا للمكاسب والتحديات التي تعيشها البلاد، مبرزا أن ما تحقق في المغرب لم يأت بمحض الصدفة، بل كان نتاجا للرؤى البعيدة المدى في ظل استقرار سياسي ومؤسسي شكل الحاضن الآمن لما تحقق من مكتسبات طوال ربع قرن من الزمن، مستعرضا جلالته أسباب تعزيز مقومات الإقلاع الاقتصادي الذي نما بفضل دخول البلاد عهد النهضة الصناعية منذ أزيد من عقد من الزمن.
فسر الصعود المحقق؛ يكمن في المسؤولية والثقة التي يحظى بها المغرب لدى شركائه الأجانب؛ مما أهل الاقتصاد الوطني للارتباط بما يناهز ثلاثة ملايير مستهلك للمنتوج الوطني عبر العالم، وهو رقم لا يخلو من دلالة لبلد يقع ضمن نادي الدول الصاعدة.
وفي إشارة رمزية لافتة، تبرز الجرأة الملكية في الخطاب والتي تتجاوز الخطاب الحكومي وتفوقه بكثير.
فقد سجلتُ بارتياح المضمون الجريء للخطاب الملكي؛ فيما يتعلق بموقف المؤسسة الملكية من مستوى التنمية، الذي أكد ملك البلاد أنه لن يكون مرضيا له، ما لم ينعكس بشكل ملموس على تحسين ظروف عيش المواطنين من كل فئات المجتمع وفي كافة أنحاء البلاد.
مما يعني أن الملك غير راض عن الإقلاع الاقتصادي الذي لا ينعكس أثره وآثاره على مستويات عيش فئات الشعب. وههنا يلتحم خطاب الملك بمطالب الشعب الذي يشكو من أعطاب التنمية التي تعيشها مناطق البلاد خاصة في العالم القروي.
وهو ما يشير بالبنان لمحدودية تدخل الفاعل الحكومي، وعجز صناع القرار التنموي على المستويين الجهوي والمحلي عن بلوغ الهدف المنشود وهو التنمية الشاملة للإنسان والمجال معا.
واعتبارا لنتائج الإحصاء العام للسكان لسنة 2024، والتي اعتبرها الخطاب الملكي جديرة بالتوقف عندها، وأخذها بعين الاعتبار، خاصة ما يتعلق منها بالتحولات الديمغرافية والاجتماعية والمجالية، الأمر الذي يتطلب استحضارها أثناء وضع وتنفيذ السياسات العمومية في كل البرامج التنموية.
وهنا أستحضر إشارة ملكية سابقة، في إحدى خطب الملك حول أهمية مؤسسة المندوبية السامية للتخطيط، كمؤسسة استراتيجية في البلاد، ينبغي على مؤسسات الدولة مراعاة نتائج أشغالها ومنجزاتها ذات الطبيعة الاستراتيجية والإحصائية، لأنه لا معنى لاقتصاد لا يقوم على توجه استراتيجي واضح، معزز بالتوقعات والإحصائيات الدقيقة لوضع سياسات عمومية ناجعة.
وبالعودة لمضامين خطاب العرش لهذا العام، فقد توقف ملك البلاد بأسف؛ عند تسجيل بعض مظاهر الخلل التنموي، مستعرضا جلالته بعض مكامن الأعطاب الكامنة في الفقر والهشاشة بسبب النقص في البنى التحتية والخدمات الأساسية على مستوى العالم القروي، مما يعتبر مساءلة علنية من أعلى سلطة في البلاد للبرامج التنموية الحكومية، وأثرها على فئات الشعب المغربي، خاصة ساكنة العالم القروي، داعيا جلالته صراحة لنقلة حقيقية في التأهيل الشامل للمجالات الترابية.
والعمل على تدارك الفوارق الاجتماعية والمجالية؛ عبر الدعوة لمقاربة جديدة وغير تقليدية للتنمية المجالية المندمجة، حتى تقطف جميع مكونات الشعب ثمار التقدم والتنمية دون تمييز أو إقصاء بين مناطق البلاد.
كما وجه الملك بالمناسبة الحكومة لاعتماد جيل جديد من برامج التنمية الترابية يقوم على تثمين الخصوصيات المحلية، وتكريس الجهوية المتقدمة باعتماد مبدأي التكامل والتضامن بين المجالات الترابية الوطنية.
وقد حدد الخطاب الملكي أولويات الجيل الجديد لبرامج التنمية الترابية التي تشكل دعامات التصور الملكي الجديد والتي تقوم أساسا على أربعة عناصر؛ تشمل دعم التشغيل من خلال تثمين مؤهلات الاقتصاديات الجهوية؛ عبر توفير مناخ ملائم للاستثمار المحلي.
وكذا تقوية الخدمات الاجتماعية الأساسية؛ خاصة في مجالات التعليم والصحة ضمانا لتكريس العدالة الاجتماعية بين الجهات.
كما أكد الخطاب الملكي مرة أخرى على ضرورة حماية الثروة المائية؛ عن طريق اعتماد التدبير الاستراتيجي المستدام للثروة المائية الوطنية، خاصة في ظل التحديات المناخية الكونية.
مؤكدا جلالته على ضرورة إطلاق مشاريع التأهيل الترابي المندمج في انسجام تام مع المشاريع الوطنية الكبرى، وهو ما يعني العمل على ضمان الالتقائية بين التوجهات الوطنية الكبرى مع مشاريع التأهيل الترابي عبر الجهات.
وهي أولويات بقدر ما ترسم خارطة الطريق للتصور الملكي الجديد حول التأهيل الشامل للمجالات الترابية، فإنها تُقَوِّم اعوجاجات السياسات الحكومية في المجالات التي ركز عليها جلالة الملك في خطاب العرش.
على مستوى الشأن السياسي:
في ارتباط بالشأن السياسي العام بالبلاد، وضمانا لتوفير مناخ صحي وسليم للاستحقاقات الانتخابية المقبلة، التي تشكل عنوانا للمرحلة المقبلة، والحكومة المنتظرة التي ستحملها صناديق الاقتراع إلى سدة التدبير الحكومي، تلك الحكومة القادمة؛ تنتظرها مهام كبرى خاصة فيما يتعلق بمشاركة بلادنا في تنظيم منافسات مونديال 2030، بما يعنيه ذلك من التزامات دولية للبلاد على المستوى المالي واللوجيستي، والتدبيري والتواصلي وغيره.
وفي هذا الصدد؛ دعا جلالة الملك إلى توفير المنظومة العامة المؤطرة لانتخابات مجلس النواب واعتمادها قبل متم العام، مما يعني أنها ستكون على رأس قائمة الأجندة التشريعية للبرلمان في الدخول السياسي والتشريعي المقبل/والأخير في هذه الولاية.
موجها جلالته وزير الداخلية للإعداد الجيد للانتخابات التشريعية المقبلة وفتح باب المشاورات السياسية مع مختلف الفاعلين، وهو توجيه ماكي يعزز مرة أخرى ثقافة التشاور، ويرسخ منهج الديمقراطية التشاركية بين مختلف الفاعلين في المحطات الكبرى والتحديات الحاسمة بالبلاد.
فتنظيم الانتخابات التشريعية المقبلة يكتسب أهمية بالغة في تاريخ البلاد حاضرا ومستقبلا.
على المستوى المغاربي:
أكد جلالة الملك مرة أخرى الالتزام بالانفتاح على المحيط الجهوي وخاصة مع الجارة الشرقية الجزائر، مستعرضا العناصر المشتركة للشعبين الشقيقين المغربي والجزائري، معلنا جلالته حرصه على سياسة
اليد الممدودة للأشقاء الجزائريين؛ لفتح حوار صريح ومسؤول، وأخوي وصادق حول القضايا الثنائية العالقة بين البلدين الشقيقين والجارين، في تمسك واضح بالإيمان بالاتحاد المغاربي المقرون بانخراط المغرب والجزائر وباقي الأشقاء الجيران.
على المستوى الدولي:
أكد جلالة الملك محمد السادس الاعتزاز بمسار التأييد الدولي المتواصل لمبادرة الحكم الذاتي لقضية الصحراء تحت السيادة المغربية، معربا عن عبارات الشكر والتقدير للمملكة المتحدة وجمهورية البرتغال الصديقتين على موقفهما البناء المساند لمبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد لسيادة المغرب على صحرائه، والمعزز لمواقف عديد الدول عبر العالم.
وفي إشارة ملكية تعكس الاعتزاز بالحق والشرعية، جدد جلالة الملك الحرص على إيجاد حل توافقي لا غالب فيه ولا مغلوب؛ حل يحفظ ماء وجه جميع الأطراف المعنية بملف الصحراء.
مشيدا في الختام بمكونات القوات المسلحة الملكية والإدارة الترابية، داعيا جلالته لشهداء الوطن بالرحمة.
على مستوى الرسائل المضمرة:
أما على هذا المستوى، فيمكن القول إن لغة الخطاب الملكي لجلالة الملك محمد السادس-تلك اللغة- السلسة والرقراقة والأنيقة التي لا شدة فيها ولا غلظة ولا تكلف.
لغة محملة بالرسائل الدبلوماسية الحصرية والتي حرصت على النهل من قيم الدين والتاريخ المشترك وسياسة حسن الجوار واليد الممدودة، والتشبث بإيجاد صيغة لبناء المشترك مع الأطراف المعنية بملف الصحراء، في ارتباط مع ما تشهده الساحة الدولية من تطورات، وتزامن ما أعلنه جلالة الملك محمد السادس من حزمة الإصلاحات التنموية والاقتصادية الداخلية مع رهانات دولية ومواعيد دبلوماسية حاسمة في ملف الصحراء، يأتي كل هذا في انسجام تام مع مبادرات الانفتاح على المحيط المغاربي والدولي.
وكلها مؤشرات دالة على تدشين مرحلة جديدة؛ بخطاب سياسي واع بما تتطلبه المرحلة خطاب في اتجاه دول الجوار وكل الأطراف المتدخلة في حل ملف الصحراء على مستوى الخارج.
أما مسك ختام الخطاب الملكي، وخاتمة الإشارات الملكية فتكمن في الاستشهاد بسورة قريش المكية التي نزلت بعد التين وقبل القارعة، وتقع في الترتيب السادس بعد المائة (106) وقد وردت في القرآن الكريم بعد سورة الفيل التي تستعرض مصير من هاجم البيت الحرام، لأن للبيت رب يحميه.
ولتبرز نعم الله على عباده وخاصة قبيلة قريش.
وكأن القرآن يقول لهم احمدوا الله واشكروا نعمه عليكم، فقد أطعمكم من جوع بعد مسغبة، وآمنكم من خوف بعد مذلّة.
وللإفادة اكثر، استشهد بهذا الحديث النبوي الشريف.
فعن أم هانئ بنت أبي طالب: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: فَضَّلَ اللَّهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ لَمْ يُعْطِهَا أَحَدًا قَبْلَهُمْ وَلَا يُعْطِيهَا أَحَدًا بَعْدَهُمْ: أَنِّي فِيهِمْ وَفِي لَفْظٍ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ، وَالْخِلَافَةُ فِيهِمْ، وَالْحِجَابَةُ فِيهِمْ، وَالسِّقَايَةُ فِيهِمْ، وَنُصِرُوا عَلَى الْفِيلِ، وَعَبَدُوا اللَّهَ سَبْعَ سِنِينَ، وَفِي لَفْظٍ عَشْرَ سِنِينٍ لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ﴿لإِيلافِ قُرَيْشٍ﴾.».
فهل تفهم “قريش” أو من تبقى منها خاتمة الخطاب وأم الرسائل..
* باحث في الشأن العام والشؤون الصحراوية