في مشهد يحمل من الرمزية ما يتجاوز مراسم التوقيع الرسمية، وقعت جامعة قرطبة الإسبانية وسفارة المملكة المغربية في مدريد اتفاقًا تاريخيًا لإنشاء “كرسي العلاقات المغربية الإسبانية – فاطمة الفهرية”، في سابقة ثقافية وأكاديمية تعيد رسم ملامح الجوار بين الضفتين، وتؤسس لمرحلة جديدة من الدبلوماسية الثقافية تتكئ على رصيد مشترك من التاريخ والتعايش.
وجاء هذا الاتفاق تتويجًا لجهود مستمرة من قبل السفارة المغربية، بدعم من جمعية الصداقة الأندلسية المغربية – منتدى ابن رشد، حيث جرى التوقيع الرسمي داخل القاعة الموريسكية برئاسة جامعة قرطبة، بحضور شخصيات أكاديمية ودبلوماسية بارزة، تقدمهم رئيس الجامعة مانويل تورالبو رودريغيث، وسفيرة المملكة المغربية لدى مدريد كريمة بنيعيش، إلى جانب الوزير المفوض محمد الأمين ستي، والمستشار بالسفارة إبراهيم براوكي، وكوكبة من الأساتذة والمهتمين بقضايا الحوار الثقافي، من ضمنهم الكاتبة والجامعية ماريا روزال، والأستاذة لوسيا كابريرا روميرو، والكاتب ورئيس المنتدى الأندلسي المغربي خوسي ساريا كويفاس.
ويحمل الكرسي اسم فاطمة الفهرية، مؤسسة جامعة القرويين بفاس في القرن التاسع، وهي التي تُعد من أقدم الجامعات في العالم، كإشارة واعية إلى البعد النسائي في تاريخ المعرفة الإسلامية، وتجسيدًا لحضور المرأة كمؤسسة للعلم لا كمتلقية له فحسب.
بهذا المعنى، تصبح فاطمة الفهرية رمزًا ثقافيًا جامعًا بين الضفتين، يلامس مشتركًا تاريخيًا يمتد من فاس إلى قرطبة، ومن العصر الذهبي للعلم إلى تحديات الحاضر.
وسيركز هذا الكرسي الأكاديمي على إطلاق مبادرات علمية وتربوية وثقافية، تُشجع التبادل بين الباحثين والطلاب المغاربة والإسبان، وترسخ لفهم أعمق للآخر من داخل المؤسسة الأكاديمية، بعيدًا عن الانطباعات السطحية أو الصور النمطية.
كما سيعمل الكرسي على تنظيم أنشطة تعريفية بتاريخ المغرب ومجتمعه وتحولاته الراهنة داخل السياق الإسباني، والعكس كذلك، في محاولة لتأسيس خطاب إنساني متبادل ينهل من الذاكرة ويستشرف المستقبل.
ولا تبدو رمزية قرطبة كموقع لهذا المشروع مجرد صدفة جغرافية، بل استدعاء واعٍ لذاكرة المدينة التي كانت ذات يوم حاضنة للحوار بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وعاصمة أندلسية امتزج فيها الفكر الفقهي بالفلسفة، والشعر بالعلوم. بهذا الامتداد، يصبح هذا الاتفاق امتدادًا معاصرًا لروح قرطبة، التي لم تنطفئ جذوتها رغم تعاقب العصور.
ومن جهة أخرى، يعكس إطلاق الكرسي أيضًا تحوّلًا نوعيًا في منطق العلاقات المغربية الإسبانية، من مجرد تدبير دبلوماسي للملفات الأمنية والهجرات الموسمية، إلى بناء حوار معرفي طويل الأمد يُعيد تشكيل الوعي المتبادل، ويمنح الثقافة دورها المستحق كأداة استراتيجية في تعزيز الاستقرار والتفاهم بين الشعوب.
وفي الوقت الذي تعيش فيه ضفتا المتوسط على وقع توترات جيواستراتيجية وتحولات عميقة، تظهر مبادرات من هذا النوع كصمامات أمان حضارية، تُعيد الاعتبار للغة الحوار والتبادل، وتُراهن على العقل والمعرفة كممر آمن نحو المستقبل، بدل الارتهان للصدام والهواجس الأمنية.
هكذا، وبين دفتي التاريخ والمعرفة، يمد المغرب وقرطبة جسرًا جديدًا اسمه “فاطمة الفهرية”، لا يُبنى بالإسمنت والحديد، بل بالفكر والذاكرة والإرادة الأكاديمية..
جسر لا يعبره الساسة فقط، بل المثقفون والطلاب، والباحثون عن الإنسان في الآخر، والباحثون عن أنفسهم في مرآة التاريخ المشترك.