في سابقة مثيرة للجدل، خرج رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش بتصريح غير مألوف داخل قبة البرلمان هذا الأسبوع، ردًّا على تساؤلات وجهها أحد النواب بشأن شبهات منح صفقات ومشاريع حكومية لشركات مقربة منه ومن دائرته الضيقة، فيما بات يُعرف إعلاميًا وداخل الأوساط الشعبية بـ”جوقة أخنوش الاقتصادية”.
فقد صرح أخنوش قائلاً: “أنا كنعرف ثلثين ديال رجال الأعمال، وإذا بغيت مانتعاملش معاهم، راه ما غايخدم حتى واحد”. وهي عبارة اعتبرها كثيرون إقرارًا صريحًا لا فقط بتضارب المصالح، بل بتحكم فعلي في مفاصل الاقتصاد الوطني، مما يعكس اختلالًا بنيويًا في قواعد الشفافية وتكافؤ الفرص.
تهديد مبطّن أم اعتراف خطير؟
هذا التصريح لم يمر مرور الكرام، بل أثار موجة واسعة من الانتقادات والقراءات الحقوقية والسياسية. فبين من اعتبره تهديدًا مبطّنًا لحرية المنافسة، وبين من رأى فيه اعترافًا مباشرًا بهيمنة علاقات القرابة والمصالح الخاصة على دواليب الدولة، يبقى المؤكد أن رئيس الحكومة أدلى بكلام خطير في مؤسسة دستورية يفترض أن تكون منبرًا للرقابة لا للتحدي.
وحتى إن كان التصريح قد أُطلق ضمن سياق معيّن، فإن السياسة التواصلية لرئيس الحكومة لا يمكن أن تنفصل عن المبدأ الدستوري القائم على ربط المسؤولية بالمحاسبة.
كما أن التمادي في التغاضي عن قاعدة الحياد والشفافية يغذي أزمة الثقة بين المواطن والدولة، في ظرفية دقيقة تتطلب الحكمة لا الاستفزاز.
من “غادي نربّيو” إلى “ما غايخدم حتى واحد”
لم يكن هذا هو التصريح الأول الذي يخلق جدلًا، فقد سبقه تصريح مشابه في بداية الولاية الحكومية حين قال أخنوش: “غادي نربّيو لي ما مربّينش”، وهو تعبير لم تندمل تبعاته بعد، واستُحضر مجددًا هذه المرة كأحد تمظهرات الخطاب المتعالي الذي يتنافى مع أبسط قواعد التواصل المؤسساتي والمسؤولية السياسية.
المغرب لا يحتمل المزيد من الاستفزازات
ما يجب إدراكه بجدية، هو أن المغرب يعيش تحديات مركبة، داخلية وخارجية، تستدعي التماسك الوطني، لا صب الزيت على نار الاحتقان الاجتماعي.
فمن انتفاضة أيت بوكماز في أعالي الأطلس الكبير، إلى موجات الغضب الشعبي في مناطق مهمشة، يبرز جليًا أن المواطن المغربي يئن تحت وطأة التفاوتات الاجتماعية والجهوية وغياب العدالة المجالية.
إن المسؤولية الآن تقتضي خطابًا عقلانيًا يزرع الثقة، لا الاستقواء بالسلطة الاقتصادية، خصوصًا وأن ملف تضارب المصالح بات اليوم قضية رأي عام، والمطالبة بمراجعة خريطة الاستفادة من الصفقات العمومية ليست ترفًا، بل حقًا مشروعًا، في ظل تقارير متواترة عن إقصاء ممنهج لفئات واسعة من الفاعلين الاقتصاديين، وتكريس الاحتكار باسم العلاقات.
لا تنمية بدون تطهير
لقد أشرنا مرارًا في مقالات سابقة، منها: “المغرب تحت الاستهداف المركب: أعداء الخارج وخناجر الداخل“، إلى أن الفساد السياسي والإداري هو أخطر تهديد داخلي يواجه المغرب، ويُعد بابًا خلفيًا للاختراق الخارجي والانحلال الداخلي.
ولا يمكن مواجهة هذا التحدي الجوهري بدون تنقية حقيقية للبيت الداخلي من الريع والامتيازات الفئوية والمحسوبية. وهو ما بدأت الدولة تدركه فعليًا، عبر إطلاق حملة “الأيادي النظيفة” التي استهدفت مسؤولين نافذين ضالعين في ملفات فساد، وشكلت مؤشرًا على إرادة سياسية جدية في القطع مع ممارسات الماضي.
وجدير بالذكر، إن الشعب المغربي، وعلى وجه الخصوص الفئات الهشة والمهمّشة، أصبح يعيش تحت ضغط غير مسبوق، بفعل التدهور المتسارع للقدرة الشرائية، وغلاء المعيشة، وتفاقم البطالة، وغياب العدالة المجالية في أغلب المناطق.
هذه الطبقات اليوم تقف على شفا الانفجار الاجتماعي، بعد أن استُنفدت قدرتها على الاحتمال، وهو ما يفرض على صناع القرار مراعاة هذا الإكراه البنيوي والإنساني، والتفاعل مع المطالب الاجتماعية بجدية، بدل التغافل أو الخطاب المتعالي، لأن تجاهل هذا الواقع لم يعد ممكنًا، وتداعياته قد تكون مكلفة على الاستقرار العام.
العدالة الاقتصادية أساس الاستقرار
إن مبدأ تكافؤ الفرص واحترام قواعد الشفافية في تدبير المال العام، ليس فقط حقًا دستوريًا، بل ضمانة حقيقية للاستقرار الوطني.
والمغرب، وهو يواجه تحديات إقليمية وأمنية جسيمة، لا يمكنه أن يتحمل فقدان الثقة في مؤسساته بسبب مواقف فردية غير محسوبة.
ختامًا، لا أحد فوق القانون، والمسؤولية السياسية تقتضي الاعتذار عند الخطأ، لا تبرير التمادي فيه.
فالشعب المغربي، الذي اختار طريق الإصلاح والثقة، يستحق قيادة تتحدث بلغة المواطنة لا بلغة التحكّم، وتحترم ذكاء الرأي العام لا أن تستهين به.