آراءسياسة
أخر الأخبار

الملك محمد السادس.. من منطق الحسم إلى فلسفة التوافق

وهنا تبرز قوة العبارة الملكية: “لا غالب ولا مغلوب”، ليس باعتبارها دعوة للتنازل المتبادل، بل باعتبارها سقفًا حضاريًا للانتصار المغربي؛ انتصار لا يُذلّ فيه الخصم، ولكن لا يُنسى فيه التاريخ

فيصل مرجاني

بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لاعتلاء أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله عرش أسلافه الميامين، أطل الخطاب الملكي هذه السنة حاملا لعدة رسائل ليس فقط بدلالات سياسية واضحة وإشارات سيادية دقيقة، بل بمضامين جيواستراتيجية ذات أبعاد مركبة، تُعيد ترتيب أولويات الدولة المغربية في ظل مشهد إقليمي متغير، وتؤسس لنقلة نوعية في هندسة الوعي الدبلوماسي الوطني، خصوصًا فيما يتعلق بملف الصحراء المغربية وعلاقته المتشابكة بالنظام الجزائري.

لقد جاء تأكيد جلالة الملك على أن مبادرة الحكم الذاتي تمثل الحل الوحيد الممكن للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية كحقيقة سيادية غير قابلة للتراجع أو إعادة التفاوض.

هذا التأكيد لم يكن مجرد إعادة لما أصبح بمثابة عقيدة دبلوماسية مغربية، بل حمل معه هذه المرة مستوىً جديدًا من الحسم والتجذر في الخطاب، من خلال الربط بين شرعية هذه المبادرة وتكاثر الاعترافات الدولية بها، التي باتت تشكل “مخزونًا سياديًا” يحصّن الوحدة الترابية بعمق قانوني وأخلاقي وجيوسياسي.

لكن ما استوقفني كما بالنسبة للعديد من المهتمين بالشأن السياسي المغربي في هذا الخطاب، هو تلك الجملة المفصلية التي جاء فيها:

“وبقدر اعتزازنا بهذه المواقف، التي تناصر الحق والشرعية، بقدر ما نؤكد حرصنا على إيجاد حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف.”

هذه العبارة، المتزنة في ظاهرها، والعميقة في باطنها، تكشف عن ذكاء استراتيجي مغربي يمزج بين صرامة الموقف السيادي ومرونة العرض السياسي.

فهي لا تشير فقط إلى استمرار سياسة اليد الممدودة تجاه الجزائر، بل تؤسس لمعادلة جديدة قوامها: “منطق الانتصار الهادئ”؛ أي “انتصار بلا استعلاء، وتفوق بلا استفزاز” أن المغرب، وهو في موقع قوة دولية وشرعية قانونية، ما زال منفتحًا على تسوية تخرج فيها الأطراف من مأزقها دون إذلال أو إنكار

لكن في العمق، ما يبدو كخطاب تصالحي هو في حقيقته تحذير دبلوماسي مغلف باللباقة السياسية. فالجملة الملكية لا تكتفي بتقديم اليد الممدودة، بل ترسم حدود التسامح: إما حل توافقي وفق المرجعية المغربية القائمة على الحكم الذاتي داخل السيادة الوطنية، أو استمرار المسار، الذي قد يفتح بصيغة غير معلنة الباب أمام إعادة قراءة شاملة للعلاقات الثنائية، بما في ذلك مسألة الصحراء الشرقية التي ما تزال مطموسة في الذاكرة التاريخية المشتركة، ولكن قابلة للاستدعاء، إن استمرت الجزائر في معاكسة الحقوق الترابية للمملكة.

الخطاب إذن لا يتحدث إلى الداخل المغربي فقط، بل يوجّه رسائل مركبة:

 • إلى الجزائر: أن الصبر المغربي ليس ضعفا، وأن التفاوض لا يعني المساومة على السيادة.

• إلى المنتظم الدولي: أن المغرب لم يكتف بحشد التأييد لمبادرته، بل يقدم نموذجًا في التعقل الجيوسياسي.

 • إلى الداخل المغربي: أن مشروع الحكم الذاتي لم يعد مجرد مقترح، بل أصبح ركيزة من ركائز الأمن القومي.

وهنا تبرز قوة العبارة الملكية: “لا غالب ولا مغلوب”، ليس باعتبارها دعوة للتنازل المتبادل، بل باعتبارها سقفًا حضاريًا للانتصار المغربي؛ انتصار لا يُذلّ فيه الخصم، ولكن لا يُنسى فيه التاريخ.

إن جلالة الملك، كعادته، يتحدث بلغة لا تحمل كلمات زائدة. فكل عبارة تحمل بعدًا وجوديًا للدولة، ورؤية متكاملة لبنية الصراع والتفاوض. والذكاء هنا هو أن الخطاب، وإن بدا في بعض جزئياته مهادنًا، إلا أنه يضع لبنات تحذير غير مباشر لمن لا يقرأ الرسائل السياسية إلا حين تتحول إلى أزمات.

لقد أدار الملك محمد السادس ملف الصحراء المغربية بمنطق الدولة الواعية بتحديات القرن، وبحكمة مَن يملك أدوات الردع دون الحاجة إلى استخدامها.

ولعل هذا ما يجعل من خطاب العرش المجيد ليس مجرد تقليد مؤسساتي، بل وثيقة استراتيجية تؤسس لمفهوم مغربي جديد للسيادة: سيادة لا تنغلق على الخصوم، ولكنها لا تتنازل عن المبادئ.

https://anbaaexpress.ma/c6orb

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى