مصطفى عبد الوهاب العيسى
كانت على رامٍ، وأنا في طريقي إلى ثمود..
إطالةٌ في النظر، تَبِعها انتظارٌ وهدوءٌ وجلوس !!
إعجابٌ غريب، ثمَّ استرسالٌ في الإعجاب وإطالةٌ مرة أخرى !!
ثمَّ حُب !
نعم بهذه السرعة.
هو اليقين بأن الله قد يخلُق زهراءَ كحيلة مجدداً، ومن يؤمن لا يقنطُ من رحمة الله في تصوير الأصيلة كيفما شاء، وبأي صورة أراد.
اقتربتُ منها واقتربت، وتبادلنا بعض الأحاديث التي لا معنى لها، ولا فائدة منها، وكانت غايتي هي كسب الودّ والوقت معاً، أمَّا غايتها فغالباً هي الفضول فقط.
والدتها كانت قريبة، ويبدو أنها كانت تخافُ عليها، ولكن دون مبالغة، وقد منحتها الثقة في الحديث مع الغرباء، وكانت تأتي لتطمئن عليها كلما سنحت لها الفرصة، وتعتني بها حيناً، وتُلاعبها حيناً، وتمنحها الجرعات الأخيرة من عطف الأمومة.
في الحقيقة كان يبدو أنها في المرحلة الحرجة التي تُحاول أن تُقدم لها وتُعطيها كل ما لديها من علم لمواجهة مصاعب الحياة مستقبلا.
هنا بدأتُ أُفسِدُ مُتعتي بالتفكيرِ والبحث عن أجمل صورة لها مُتناسياً أن الذاكرة والخيال يحملان ما هو أجمل، ثمَّ بدا وكأنها تسأل عن شيءٍ ، فأخذت تهمسُ بالإسبانية ، ولم أفهم شيئاً سوى (مصطفى و بولفافور) فأجبتُها: غراثياس، وحتى لو كان الحديث وهماً فأنا على يقين من أنها تُجيد الإسبانية، بل ولا أستبعد إذا ما التقينا مرة أخرى أن أسمعها تغني لنجاة الصغيرة.
بعدها أخذت تضحكُ وتمرحُ قليلاً، ثمَّ اتجهت للعب بعيداً، فإذا بالجمال الياباني كله قد تجسد فيها، وإذا ما استغرقت في الضحك، وتلألأت عيناها، وقُدِّر لك مشاهدتها فقد أُعِيد بك الزمن، ومُنِحت زيارةً مدفوعة التكاليف لقُرطُبة وإشبيليَّة، ثمَّ غطَّت في نوم عميق، وكانت أكبرُ جريمةٍ إيقاظُها من الحُلمِ الذي تعيشه وهي نائمة، ومع الأسف كان من المستحيل ألا يوقظها من عالمها أحد الحمقى.
وبمعزلٍ عن التعفف المتجذر في روحها فقد كان جرس الكنيسة في قلبها والمسجد الساكن في وجدانها يحملانها على الترفع ومتابعة الطريق، فعلى الرغم من الرائحة الشيوعية الظاهرة بحركاتها، والمحيطة بأدائها لرقصات زوربا، إلَّا أن عِزَّاً أمويَّاً كان يظهرُ فجأة في جديَّة نظراتها، ويغلبها الطبعُ والأصل فتعود إلى ما كانت عليه من أرستقراطيةٍ جميلة.
قبل الغياب بدأت بمراقبة عصفورٍ صغير، واتجهت صوب ذاك العصفور الذي كان عالماً بأكمله بالنسبة لها.
طار العصفور فأطالت الشرود، وبدت وكأنها أميرةٌ فرعونيَّة خالدة عاشت كل العصور مع مصر، وقاسمتها كل ما تعاقب عليها من حضارات حتى توقف الزمن بها وتقمَّصت مرحلة الخمسينيات والستينيات، وأصبح بعد ذلك مُتاحاً بومضاتٍ متفرقة رؤيةُ جُلِ أدوار شادية ، وصوتُ فاتن حمامة، ورقَّة سعاد حسني، وإطلالة نجلاء فتحي.
هي من خلق الله، وهي من تقولُ إذا أمعنت النظر فيها سبحان الله.
هي قِديسةٌ، وهي أجملُ سفيرةٍ لكلِ العواصم.
تليقُ بها دمشق.. تليقُ بها بيروت.. تليقُ بها مدريد.
* كاتب وباحث مستقل / سوريا (مقيم في العراق)