آراء
أخر الأخبار

الصلاة.. ليست عماد الدين

أؤمن أن عماد الدين هو العقل، لأنه مناط التكليف، ووسيلة الفهم، وجوهر الحرية. أؤمن أن عماد الدين هو الضمير، لأنه البوصلة التي تميز بين الخير والشر، ولو في غياب القانون. أؤمن أن عماد الدين هو المعاملة، لأن الدين الحقيقي يُقاس بطريقة تعاملنا مع الناس لا بكيفية سجودنا..

كثيرًا ما نسمع أن الصلاة هي عماد الدين، وكأنها وحدها تمثل جوهر الإسلام وروحه، حتى صرنا نربط بين إيمان الإنسان ومدى التزامه بأداء الصلاة شكليًا، دون أن ننظر إلى أخلاقه، أو معاملاته، أو صدقه، أو عدله، أو إحساسه بالآخرين.

لكنني، من موقعي كباحث في الفكر والدين، ومن خلال تجربتي في التأمل في النص الديني والواقع معًا، أجد أن هذه النظرة قاصرة وخطيرة في الوقت نفسه، لأنها تختزل الدين في طقس محدد، وتغفل روحه العميقة التي تقوم على تحرير الإنسان، وإعلاء العقل، وبناء الضمير، وتعزيز قيم العدل والرحمة والمساواة.

حين نتأمل القرآن، لا نجد أن الله ربط الدين بالصلاة وحدها، بل ربطه بمجموعة من القيم الكبرى التي تصنع إنسانًا متوازنًا، عادلًا، راشدًا، نافعًا لنفسه ولغيره.

الدين كما أفهمه ليس هو عدد الركعات في اليوم، ولا الحركات التي نكررها، بل هو أثر ذلك كله في سلوكنا، في تعاملنا مع الناس، في صدقنا في البيع والشراء، في احترامنا للضعيف، في الرحمة بالحيوان، في الحياء من الكلمة القبيحة، في الالتزام بكلمة الحق ولو على أنفسنا.

ما جدوى الصلاة إذا كانت لا تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ ما فائدتها إذا كان الإنسان يصلي، ثم يظلم، أو يكذب، أو يخون، أو يسرق، أو يُسيء إلى أهله أو جيرانه أو مرؤوسيه؟

الصلاة فعل رمزي جميل، لكنها ليست هي الدين كله، بل هي جزء صغير منه. الدين أوسع من الطقوس، وأعمق من الشعائر. إنه مشروع لبناء الإنسان الكامل، الحر، العاقل، العادل، النزيه. وقد رأينا في واقعنا من يصلي الفجر في جماعة، ثم يغش في الميزان، أو يتلقى رشوة، أو يشهد زورًا، أو يحتقر الناس، أو يُعنف زوجته.

فهل هذه صلاة تُقيم الدين؟ أم تُفرغه من معناه؟ وهل الله محتاج إلى حركاتنا إذا لم تنعكس على أخلاقنا وسلوكنا؟ إن أخطر ما أصاب تصورنا للدين هو هذا الانفصال بين العبادة والسلوك، بين الصلاة والمعاملة، بين الظاهر والباطن.

صرنا نحكم على تدين الناس من لباسهم، لا من ضميرهم، من عدد صلواتهم، لا من عمق إحساسهم بالحق والعدل والغير.

ثم إن الإسلام، منذ بدايته، لم يأت ليفرض حركات على الأجساد، بل جاء ليوقظ العقول ويحرر الضمائر. جاء ليرسخ قيمة الإنسان، ويدعونا إلى التفكير، والتدبر، والتأمل، لا إلى التقليد والاتباع الأعمى.

ما قيمة أن يُصلي الإنسان وهو يردد آيات لا يفهمها، ولا يسعى لفهمها، ولا يتدبر ما فيها من دعوة إلى الوعي والتغيير؟ بل ما قيمة أن يصلي الإنسان لله، وهو يعبد في واقعه المال، أو الجاه، أو المصلحة، أو الزعيم، أو الطائفة؟ كثير من الناس اليوم يمارسون الصلاة، لكنهم ينسون جوهر التوحيد، الذي هو ألا تخضع لغير الله، وألا تظلم، وألا تتكبر، وألا تعتبر نفسك أسمى من الآخرين.

حين أقول إن الصلاة ليست عماد الدين، فأنا لا أريد أن أهون من قيمتها الروحية أو النفسية، بل أريد أن أعيدها إلى مكانها الطبيعي داخل منظومة أوسع، هي منظومة الدين في بعده الإنساني والأخلاقي والعقلي.

الصلاة وسيلة، وليست غاية. أداة لبناء العلاقة مع الله، لكن هذه العلاقة لا تُقاس بالكم، بل بالصدق، ولا تُقاس بالحركة، بل بالأثر. إذا لم تُخرجني الصلاة إنسانًا أفضل، فما جدواها؟ إذا لم تجعلني أعدل وأرحم وأنقى، فهي ليست أكثر من تمرين جسدي لا علاقة له بالإيمان.

أؤمن أن عماد الدين هو العقل، لأنه مناط التكليف، ووسيلة الفهم، وجوهر الحرية. أؤمن أن عماد الدين هو الضمير، لأنه البوصلة التي تميز بين الخير والشر، ولو في غياب القانون. أؤمن أن عماد الدين هو المعاملة، لأن الدين الحقيقي يُقاس بطريقة تعاملنا مع الناس لا بكيفية سجودنا.

لهذا أرفض اختزال الدين في الصلاة، أو في الصيام، أو في اللحية، أو في الجلباب. أرفض أن يتحول الدين إلى مظاهر شكلية لا تُنتج إنسانًا أفضل، ولا مجتمعًا أنقى. الدين في جوهره مشروع تحرر وبناء، لا طقوس ومظاهر.

ولهذا أقول، بوضوح وهدوء: الصلاة ليست عماد الدين. الإنسان هو عماد الدين. العقل، الضمير، القيم، الموقف، الكلمة، العمل، هذه هي أركان الدين الحقيقي، وهي المعيار الذي أُفضّل أن أقيس به تديني وتدين غيري، بعيدًا عن الأحكام الجاهزة التي لا ترى من الدين إلا حركات الركوع والسجود، وتغفل عن كل المعاني التي من أجلها نزل الوحي، وأُرسل الأنبياء، وتكلم الله إلى الإنسان.

https://anbaaexpress.ma/zezhc

محمد بوفتاس

كاتب صحفي وسيناريست مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى