فؤاد يعقوبي
أصبحت الجامعة، التي يفترض أن تكون فضاء للتكوين العلمي والارتقاء الرمزي، مسرحا لظواهر اجتماعية تطرح أكثر من علامة استفهام حول المعايير التي باتت تحكم الحياة الطلابية، ومكانة العلم داخل الوعي الجمعي.
من بين هذه الظواهر، ما وقع مؤخرا في حفل تخرج طلبة بجامعة ابن طفيل، حيث تمت دعوة فنان شعبي معروف ومجموعة من الشيخات للغناء والرقص وسط الحرم الجامعي.
هذا الحدث، الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة، أثار جدلا مجتمعيا حادا حول المعنى الذي بات يحمله التخرج الجامعي، وهوية الطالب، وقيمة الفضاء الجامعي كمؤسسة عليا يفترض أن تكون موجهة ومؤطرة لقيم النخبة والمعرفة.
من منظور علم النفس الاجتماعي، لا يمكن فصل هذا الحدث عن التمثلات الجماعية التي تحكم سلوك الأفراد داخل الفضاءات العمومية.
عندما يقام حفل تخرج يطغى عليه الطابع الترفيهي الشعبي داخل مؤسسة علمية يفترض أن ترمز للصرامة والجدية، فإن الأمر لا يتعلق فقط بخيار تنظيمي، بل بتحول في هوية المؤسسة، وتفكك في الرمزية المرتبطة بالعلم والمعرفة.
هذا النوع من الأحداث يساهم، على نحو غير مباشر، في زعزعة هوية الطالب الجامعي ذاته، إذ يقدم له النموذج غير الأكاديمي كمرجعية مقبولة داخل الفضاء الجامعي، مما يخلق نوعا من الالتباس في تمثل الذات، ويُضعف الانتماء إلى قيم الجهد والمثابرة والارتقاء بالمعرفة.
الأخطر من ذلك أن السماح بمثل هذا السلوك داخل مؤسسة عليا يفتح المجال أمام أشكال أخرى من السلوكيات التي قد تكون أكثر تفاهة، وربما أكثر دناءة، في المستقبل.
إذ إن الطالب، بوصفه فاعلا اجتماعيا، يتعلم بالتقليد والملاحظة، وإذا رأى أن المؤسسة تتساهل مع سلوكيات ذات طابع استهلاكي استعراضي وسط فضاء يفترض فيه النخبوية والانضباط، فإنه سيستنتج ضمنيا أن كل سلوك آخر سيكون مقبولا، مادام الحرم الجامعي نفسه لم يعد يضع حدودا واضحة بين ما هو تربوي وما هو استعراضي، بين ما هو علمي وما هو تجاري.
غياب ردة الفعل من طرف الجسم الجامعي، وخصوصاً الأساتذة، يعمق الإشكال. ففي مثل هذه الحالات، كان من المفترض أن تتدخل هيئات التدريس، لا فقط كمؤطرين بيداغوجيين، بل كحماة للرمزية الأكاديمية، من خلال إصدار بيانات استنكار، وتوجيه استفسارات رسمية لإدارة الجامعة ووزارة التعليم العالي.
هذا الصمت سواء كان بدافع اللامبالاة أو الخوف من المواجهة ، يبعث برسائل خاطئة للطلبة مفادها أن المؤسسة لا تحمي قيمها، وأن الصمت في حد ذاته هو شكل من أشكال التواطؤ الرمزي.
ما جرى ليس حالة معزولة، بل يعكس اتجاها متصاعدا نحو تطبيع ثقافة التفاهة داخل الفضاءات التي كان يفترض أن تكون حصنا منيعا ضد الرداءة والسطحية.
هذا التوجه يمكن ربطه بتراجع الدور الرمزي للجامعة داخل النسق الاجتماعي، حيث أصبحت بعض الجامعات أقرب إلى مؤسسات استهلاكية تبحث عن الإثارة والاستعراض، بدلا من أن تكون منصات لتأهيل النخبة وتشكيل الفكر النقدي.
من الناحية السيكولوجية، فإن هذا الانزلاق يفرغ التخرج من معناه الرمزي، ويحول الاحتفال إلى مجرد مناسبة للفرجة والتمويه، بدل أن يكون تتويجا لمسار معرفي وجهد علمي.
ولعل أخطر ما في هذه الظاهرة هو أنها تعيد تشكيل التمثلات الجماعية حول النجاح والاعتراف الاجتماعي، إذ تصبح الفرجة بديلا عن التفوق، والضجيج بديلا عن الإنجاز، والاحتفال الفارغ بديلا عن لحظة التأمل في الذات والمجتمع.
وإذا لم يتم وضع حدود واضحة تميز بين ما يجوز وما لا يجوز داخل الحرم الجامعي، فإن الجامعة ستتحول تدريجيا إلى فضاء تائه بين منطق السوق ومنطق العلم، بين الإثارة الفارغة والرسالة التربوية.
ما حدث يستدعي وقفة تأملية جماعية، ليس فقط لمحاسبة المسؤولين عن الحدث، بل لإعادة التفكير في دور الجامعة، ومكانة الأستاذ، وهوية الطالب، والغاية من التكوين الجامعي نفسه. وإلا فإننا سنسلم، من دون مقاومة، بموت المعنى، وبتسرب التفاهة إلى آخر حصون العقل.
* حقوقي وإعلامي، خبير في علم النفس الإجتماعي