آراءثقافة
أخر الأخبار

السياسة عند ابن رشد.. نقد الاستبداد وتحرير العقل

فهم ابن رشد أن أزمة السياسة في مجتمعه لم تكن تقنية ولا ظرفية، بل كانت في جوهرها أزمة أخلاق. الحاكم لا يحكم لأن له الحق، بل لأنه يملك القوة. والناس لا يطيعون لأنه عادل، بل لأنهم يخافونه أو طُبعوا على الطاعة العمياء

في عالم تتزايد فيه مظاهر التسلط باسم المصلحة العامة، وتُمارس فيه السلطة غالبًا خارج أي أفق أخلاقي، تصبح الحاجة ملحّة لاستحضار التصورات الفلسفية العميقة التي ربطت السياسة بالفضيلة، والحكم بالعقل، والسلطة بالمسؤولية.

وليس من فيلسوف في التراث الإسلامي أنضج هذه الرؤية بعمق واتساق مثل ابن رشد.

فهو لم يتعامل مع السياسة كمجالٍ منفصل عن الأخلاق، بل اعتبرها امتدادًا لها وتجليًا من تجلياتها. السياسة عنده لا تُبنى على الغلبة، بل على المعرفة، ولا تُدار بالحيلة، بل بالحكمة، ولا تقاس بنجاح الحاكم في البقاء، بل بقدرته على تحقيق الخير العام وتحفيز العقول على التفكير والتمييز والمشاركة.

في هذا الإطار، لا بد من التأكيد على أن ابن رشد لم يكتب نظريته السياسية من فراغ أو ترف فكري. لقد عاش في فترة مضطربة من تاريخ الأندلس، حيث كانت السلطة تتأرجح بين النزعة الدينية الاستئصالية وبين الفوضى السياسية التي لا تستند إلى أي مشروع أخلاقي أو عقلاني.

كان شاهدًا على كيف يُستخدم الدين لتبرير القمع، وعلى كيف تُقصى الفلسفة من دائرة القرار بدعوى أنها تهدد الاستقرار. وفي خضم هذا، لم يكن موقفه سلبيًا أو محايدًا، بل اتخذ من الفلسفة منبرًا لنقد هذا الانحراف، ومن العقل أداة لتقويم ما فسد من ممارسات الحكم.

فهم ابن رشد أن أزمة السياسة في مجتمعه لم تكن تقنية ولا ظرفية، بل كانت في جوهرها أزمة أخلاق. الحاكم لا يحكم لأن له الحق، بل لأنه يملك القوة. والناس لا يطيعون لأنه عادل، بل لأنهم يخافونه أو طُبعوا على الطاعة العمياء.

ولهذا، فإن إعادة بناء السياسة لا تبدأ من القوانين فقط، بل من إعادة بناء الإنسان نفسه، تربيةً وتعليمًا وتفكيرًا. لم تكن المدينة الفاضلة عنده ممكنة إلا حين يتربى الحاكم والمحكوم معًا على حب الخير، والبحث عن الحقيقة، والعيش وفق قواعد العقل لا نزوات الشهوة والسلطة.

ابن رشد، في قراءته لأرسطو، لم يكن مقلدًا، بل ناقدًا ومطوّرًا. استلهم منه فكرة أن الإنسان حيوان سياسي، أي لا يستطيع أن يعيش خارج الجماعة، لكنه أضاف إلى ذلك أن هذه الجماعة لا تتحقق إنسانيًّا إلا إذا كانت قائمة على العقل والعدل.

فالعقل وحده ما يُميز بين السياسة الرشيدة والسياسة الماكرة، والعدل هو القيمة التي تمنح الشرعية للحكم. وإذا غاب العقل، أو غُيب العدل، صار الحكم استبدادًا مقنعًا أو مكشوفًا، مهما تجمّل بالشعارات الدينية أو القومية.

في ظل الاستبداد، يتراجع التفكير ويُحاصر العقل، وتصبح الطاعة فضيلة، والنقد تهمة. ولهذا، فإن المشروع الفلسفي عند ابن رشد كان أيضًا مشروعًا تحرريًا، وإن لم يستخدم هذا اللفظ صراحة.

كان يرى أن تحرير العقل هو الطريق إلى تحرير المجتمع، وأن الحكم لا يُصلَح من الأعلى فقط، بل من القاعدة التي تقوم على تربية الأفراد على الحرية والمسؤولية. من هنا تأتي مركزية التعليم عنده.

فليست السياسة مجرد إدارة لموارد ومصالح، بل هي قبل ذلك وبعده، رعاية للنفوس، وهندسة للعقول، وبناء لضمير جماعي يؤمن بالحوار لا بالإقصاء، وبالاجتهاد لا بالاتباع.

وإذا كانت السياسة الفاسدة تُنتج أخلاقًا خائفة ومشوهة، فإن الأخلاق القوية تُنتج سياسة عادلة. لذلك، لا يكفي تغيير الوجوه في الحكم، بل يجب تغيير العقلية التي تدير الحكم.

وابن رشد كان يعرف أن هذا التغيير لا يتم بالانقلاب أو العنف، بل بإعادة الاعتبار للعقل، وبترسيخ الثقافة الفلسفية في التعليم والمساجد والمجالس العامة، حتى لا يبقى التفكير حكرا على النخبة، بل يصبح حقا للجميع. لقد كان يؤمن بأن المدينة الفاضلة لا تُبنى بخطابات جميلة، بل بمواطنين يُحسنون التفكير، ويتقنون النقد، ولا يخافون من السؤال.

ولعل أجمل ما في فكر ابن رشد أنه لم يقع في ثنائية زائفة بين الدين والعقل، بل سعى إلى المصالحة بينهما من داخل الشريعة نفسها.

فالفيلسوف عنده لا يعارض الوحي، بل يُحسن فهمه، ويقرأه في ضوء العقل والواقع. ومن ثم، فإن السياسي الذي يستند إلى العقل، لا يعارض الدين، بل يُجسده في بعده المقاصدي العميق، لا في شكله الحرفي السطحي. فكل سياسة عادلة، في جوهرها، هي تعبير عن جوهر الدين. وكل ظلم، وإن لبس لبوس الشريعة، هو في الحقيقة خيانة لها.

في ضوء هذا التصور، تبدو دعوة ابن رشد اليوم أكثر راهنية من أي وقت مضى. فالعالم العربي يعيش تمزقات عميقة بين الحكم الفردي والتمثيل الشعبي، بين تقديس السلطة وغياب المشاركة، بين شيوع التدين وانحسار الأخلاق السياسية.

وإحياء فكر ابن رشد ليس تعلّقًا بالماضي، بل رهان على المستقبل. إنه دعوة إلى سياسة تجعل من الفضيلة أفقها، ومن العقل أداة عملها، ومن الإنسان غايتها لا وسيلتها.

إن السياسة حين تُبنى على الخوف، تُنتج مواطنًا تابعًا؛ وحين تُبنى على العقل، تُنتج إنسانًا حرًّا. وبين هذين النموذجين تتحدد مصائر الشعوب.

فإما أن تواصل الدوران في حلقة السلطة المغلقة، أو تفتح أبواب المدينة الفاضلة، تلك التي حلم بها ابن رشد، لا كمدينة مثالية خيالية، بل كأفق واقعي ممكن، إن نحن أعدنا الاعتبار للعقل، وللعدالة، وللإنسان.

https://anbaaexpress.ma/5c79w

محمد بوفتاس

كاتب صحفي وسيناريست مغربي

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى