في مساءات يوليو القادمة، وبين نَفَس النخيل وظلال الأطلس، ستُزهر مراكش من جديد.. لا بورود الحدائق ولا بألوان الزليج وحدها، بل بنبضٍ عتيقٍ يصعد من القِدم، من الحكايات المغبرة التي كانت تُروى على السطوح، ومن الطبول التي تتهدّل من ضلوع البلاد.
ها هي المدينة التي تشبه القصيدة حين تستفيق، تتهيأ لاستقبال واحدٍ من أعظم مواسمها، مهرجانها الوطني الرابع والخمسين للفنون الشعبية، الذي يُعدّ تاج التظاهرات الثقافية في إفريقيا، وعرسًا للروح يعيد للذاكرة المغربية مجدها، ويجعل من الموروث اللامادي نهرًا جاريًا في الأزمنة.
من قلب المدينة، حيث الحارات تتعانق بأسمائها القديمة، وساحات الذكر تتهامس بخطى الدراويش، تنطلق فعاليات هذا العرس التراثي في الثالث من يوليو، بمشاركة نخبة من الفرق الشعبية التي تجسّد غنى المملكة من شمالها إلى جنوبها، من شرقيها إلى أطلسها.
وتحت شعار “Patrimoines immatériels en mouvement” (التراث اللامادي في حركة)، يتجدّد اللقاء بين الأرض والوجدان، بين إيقاع الجسد وصدى الروح.
ولأن كل مهرجان في مراكش يبدأ بخطوةٍ أسطورية، فإن الانطلاقة ستكون عبر “الباراد الكبير” من حديقة الحارثي، ذلك الموكب الذي لا يشبه إلا نفسه، والذي بات طقسًا مغربيًا يليق بالذاكرة، لا بالعرض فقط. عربات مزينة، راقصون بأزيائهم الطقوسية، فرق شعبية من أعماق الجنوب والشرق، أصوات من الجبال والوديان، حناجر تحكي لا لتُسمَع فحسب، بل لتُبقي الوجود على قيد الوجدان.
يسير الموكب في مشيته النبيلة حتى يصل إلى قصر البديع، الذي يتحوّل بدوره إلى معبدٍ للتراث، حيث تتكئ الفنون على جدرانٍ عتيقة، وتتنفّس بين الأعمدة قصائد من ملحون، وأهازيج تَصعد من الذاكرة الجماعية وكأنها لم تغب قط.
على مدى خمسة أيام، سيكون الجمهور المغربي، وزوّار المدينة الحمراء من كل أنحاء المعمورة، على موعد مع أكثر من ثلاثين فرقة فنية من ربوع الوطن، تمثل الألوان الإيقاعية المغربية في تنوعها وتعدديتها الفريدة: من أحواش ورقصة الأطلس، إلى عبيدات الرمى والدقة المراكشية، من عيساوة وكناوة، إلى فن الركادة وألوان الشاوية.
وسيرافق المهرجان هذا العام حضور مميز لفرق دولية من الصين – ضيف الشرف – ومن بلدان إفريقية شقيقة، تأكيدًا على انفتاح المغرب وعلى أنّ الفنون حين تلتقي، لا تحتاج إلى ترجمان، لأنها تنبع من نبضٍ كونيّ واحد.
إنّ قصر البديع، هذه التحفة المعمارية السعدية، لن يكون مجرّد فضاء للعرض، بل سيتحوّل إلى شاهدٍ على امتزاج الماضي بالحاضر، حين تتجاور الإيقاعات وتتشابك الأرواح في حضرة الفن.
وفي ساحة مولاي الحسن، حيث يعانق الليل نغمات الدفوف، سترتفع أصوات العازفين في سيمفونية شعبية لا تكتب على نوطة، بل تُعزف على وقع الخطى، وتُرتّل كما يُرتّل الزجل المغربي العتيق.
وقد خُصصت واحدة من أمسيات المهرجان لتكريم الفنانة المغربية القديرة سعيدة شرف، التي ستشارك بصوتها المترع بالوجدان، حاملةً رسالة الوفاء للتراث الصحراوي، مستحضرةً في أدائها نَفَس الصحراء، وملح الأغاني التي تسكن الحناجر منذ كانت البلاد تنام على قصص الجدات. ستكون تلك الليلة بمثابة صلاةٍ فنية، تؤديها سعيدة نيابةً عن نساءٍ صدحن بأهازيج المجد دون أن تُكتب أسماؤهنّ في الدواوين.
ولا يمكن الحديث عن هذا الحدث دون الوقوف عند جمعية الأطلس الكبير، الجهة المنظِّمة للمهرجان، والتي برهنت عبر سنوات على أن التنظيم فعل حبٍّ حين يكون في حضرة التراث. هذه الجمعية، التي لا تملك من السلاح سوى شغفها بالمغرب العميق، استطاعت أن تكتب اسمها بأحرف من ضوء في دفتر الذاكرة الوطنية، وجعلت من هذا المهرجان ليس مجرّد تظاهرة فنية، بل طقسًا سنويًا تعود فيه الأرواح إلى ينابيعها الأولى.
تحت إشراف الدكتور محمد الكنيدري، رئيس الجمعية وناسِك التراث كما يسميه البعض، بدا كل تفصيلٍ من تفاصيل البرنامج وكأنه مرصودٌ بحكمة العارفين، لا بعين المبرمجين فقط. هو الذي يعرف الفرق بين رقصة تُؤدى، ورقصة تُستعاد. بين لحنٍ يُعزف، ولحنٍ يسكن الذاكرة منذ الولادة.
مراكش، المدينة التي تشبه القصائد حين تتجوّل بين الأزقة، المدينة التي إذا نادتك لا يمكنك سوى أن تلبّي، تحتضن مهرجانها كما تحتضن الأم طفلها العائد. ولعلّه من الإنصاف أن نقول إن هذا الحدث، في جوهره، ليس مجرّد احتفال بالتراث، بل هو احتفاء بالمغرب نفسه. المغرب الذي في كل رقصةٍ من رقصاته، حكايةٌ عن جبلٍ، أو وادٍ، أو قبيلة. المغرب الذي حين يغنّي، يسمعه العالم.
وللسودان، بلدي الذي أحمل أنفاسه في قصائدي، علاقة خاصة بمراكش والمغرب. فالمحبة بين الشعبين ضاربة في الجذور، في الروح، في الأدب. ويشرّفني أن يكون بعض من زملائي في صحيفة “المدينة بوست” حاضرين لتغطية هذا الحدث العظيم، حاملين عشق السودان لمغربه الحبيب، وكأننا بذلك نجسّد حلمًا ثقافيًا عابرًا للحدود، تُؤديه الفنون حين تتصافح تحت سماء واحدة.
من رقصة الأطلس التي تهزّ الجسد والروح، إلى همسات الزليج في قصر البديع، من خرير النغمات في ساحة مولاي الحسن، إلى الزغاريد التي تشقّ ليل حي المسيرة.. يمتد مهرجان مراكش كقوسٍ من الضوء، يحمل ألوان التراث ويعانق الزمن. وليس غريبًا أن تكون المدينة، التي تغنّى بها نعمان لحلو في “المدينة القديمة”، تستفيق كل عام على هذا الحلم الفني، لتؤكّد أنها لا تزال تعرف كيف ترقص.. لا للفرجة، بل للحياة.
فلنكتب، إذن، أن مهرجان مراكش ليس مجرّد لحظة تمرّ، بل هو وعدٌ يتكرّر كل صيف. وأن الفنون الشعبية ليست من الماضي، بل من الحاضر والمستقبل. وأن المغرب، حين يغنّي، فإن إفريقيا تصغي، والعالم يحتفل.