ثقافة
أخر الأخبار

ليون جوتييه.. León Gauthier (1862 – 1949م)

جمع "جوتييه" بين الثقافتين العَرَبِيَّة والأُورُوبِّيَّة، وأتقن اللغتين العَرَبِيَّة والفَرَنْسيَّة، وألّمَ باللُّغَات الأجنبية، وكان مترجِمًا ومحقِّقًا من الطِّرَاز الأَوَّل، وحاز "جوتييه" على احترام المثقفين العَرَب;الأُورُوبِّيين وتقديرهم

أولًا: “ليون جوتييه” وتكوينه المَعْرِفِيّ

النَّشأة والتكوين:

في أجواء ذلك العصر (القرن التاسع عشر الميلادي) وبعد استقرار الاِسْتِعْمار الفَرَنْسِي في الجَزَائِر، وُلد ليون جوتييه في مدينة سَطِيف (Sétif) بولاية قُسَنْطِينَة  (Constantin ) شمال شرق الجَزَائِر في 18 يناير عام 1862م. وكانت سَطِيف قد وقعت تحت الاحْتِلاَل الفَرَنْسِي في 15 ديسمبر 1848م بقيادة الجنرال “غالبو” (Galbois) ([1]).

شغل والد جوتييه منصب قاضٍ في محكمة سَطِيف المدنيّة([2]). (Juge au Tribunal Civil de Sétif)، ومن ثَم تيسر له ما لم يتيسر للكثير من أقرانه من حيث الاطِّلاع على “الْكُتُب والسِّجِلَّات”، التي اطَّلع عليها بحكم نشأته في أسرةٍ مقرَّبةٍ من شئون الحكم، أو أَطْلَعهُ عليها والده بحكم وظيفته في السلك القضائي([3]).

وبطبيعة الحال، لا بد وأنه قد تأثَّر بشخصية والده الْقَاضِي؛ أي الحياد والموضوعية والتروي في الحكم على الأمور، وهذا ما يبرر لنا مَيزة الإنصاف التي اتَّسم بها في أغلب أعماله التي سنعرض لها لاحقًا، فهو لم يغمط حق أحد، وكان موضوعيًّا قدر المستطاع.

كما اكتسب أيضًا صفةً مهمةً؛ وهي توخي الدقة وإيراد الأدلة بأكثر من وسيلةٍ عِلْمِيَّةٍ للوصول إلى الأحكام الصائبة قدر الإمكان، وهو ما نلمسه في كِتَاباته وتَحْقِيقاته؛ فكان يلتزم الدقة في جمع الأدلة والملاحظات من مَصَادِرَ متعددةٍ موثوقٍ بها، وعدم التسرع في الوصول إلى القرارات والقفز إلى النتائج ما لم تدعمها الأدلة والملاحظات الكافية.

– ثقافة ليون جوتييه:

تعليمه:

نال جوتييه حظًّا وافرًا من ثقافة عصره، وكان لها تأثيرٌ فعَّالٌ على توجهاته الفِكْريَّة، وخير شاهد على ذلك، تنوع إنتاجه واتِّسامه بالعمق والتحليل والتَحْقِيق.

لم تكن بلدة سَطِيف -نتيجةً لبعدها عن الجَزَائِر العَاصِمَة- لتلبي طموحات جوتييه العِلْمِيَّة والتعليمية؛ فانتقل وأسرته إلى هِيَ العَاصِمَةالجَزَائِر، حيث الظروف العِلْمِيَّة مواتية له ليتلقى تعليمه الثَّانَوِي في ليسيه مدينة الجَزَائِر، وكانت مدرسةً داخلية([4]).

ودرس فيها اللُّغَة العَرَبِيَّة وآدابها، والنحو، وتَارِيخ وحَضَاَرة الإِسْلام، وكل تلك الْمَعَارِف تناولها في أبحاثه ودِرَاسَاته وتَحْقِيقاته، كما سنرى لاحقًا.

وبتلك العُلُومِ والْمَعَارِف في تلك السن المبكرة، استقامت له أدوات المُفكِّر؛ بدليل أنها انعكست على أعماله وكِتَاباته وأفادته إفادةً جمَّة في منهجه في كِتَابة أعماله، وهو يقر ضمنًا بدراسة اللُّغَة والدِّين والعَادَات وَالتَقَالِيد لأهل الْبِلاد العَرَبِيَّة ومنها الجَزَائِر في كِتَابه “المدخل لدراسة الفَلْسَفَة الإِسْلاميَّة”؛ بل وتحدث عن تلك العَادَات والتَقَالِيد والصِفَات العَرَبِيَّة”([5]).

التقى في المرحلة الثَّانَويّة بصديق عمره المصوِّر “جول جيرفايس كورتيلمونت” ([6]) الذي ظل صديقه طوال حياته([7])، وأثَّرت تلك الصداقة على فِكْر جوتييه، فقد اشتركا معًا في عشق الشَّرْق والولع به، وقد اعتنق كورتيلمونت الإِسْلام في عام 1894 م وحجَّ إلى مكة، وقد اشتهر كورتيلمونت بألتقاطه صورًا بالألوان في أثناء الحرب العَالَمِيَّة الأولى([8]).

وليس من المستبعَد أن تكون صداقته بكورتيلمونت -ذلك الفنان- قد تركت لديه اهتماماتٍ بالفُنُون والآدَاب، فقد تحدَّث جوتييه باستفاضة عن الزَّخارِف العَرَبِيَّة والعِمَارَة العَرَبِيَّة([9]) وسوف نتناول ذلك في حينه.

وفي عام 1880م حصل على شَهَادَة البكالوريا في عمر الثامنة عشر؛ ثم دخل المَدْرَسَة العُلْيَا للآداب في مدينة الجَزَائِر (كُلِّيَّة الآدَاب فيما بعد) -وكانت قد أنشئت عام 1881م، وقام بالتدريس فيها نفرٌ من الأساتذة الفَرَنْسِيين البارزين([10]).

وتأثرت ثقافة “ليون جوتييه” في تلك السن المبكرة بنخبةٍ من العُلَمَاء والمُفكِّرين والأُدَبَاء الأفذاذ من رجال الفَنّ والفِكْر والأدَب واللُّغَة، ومنهم من كانوا أساتذته في المَدْرَسَة العُلْيَا للآداب نذكر منهم الناقد الأدبي والشاعر:

جوليز لومتر([11])، وكان عضوًا في أكَادِيمِيّة اللُّغَة الفَرَنْسيَّة، وموريس ﭬـاي([12]) الذي قام بحفائر مهمة عن الآثَار الرومانية في الجَزَائِر. وكان يدير هذه المَدْرَسَة ماسكيريه (Masqueray) أُسْتَاذ التَّارِيخِ، الذي قام بأبحاث في إقليم المزاب (جنوبي الجَزَائِر) عنونه في كِتَاب “ذكريات ومشاهد في إفريقية”([13]).

كما درس الفَلْسَفَة على يد الفَيلَسُوف الفَرَنْسِي “جول إميل ألاو”([14]) أُسْتَاذ الفَلْسَفَة بعد ذلك في كُلِّيَّة الآدَاب بالجَزَائِر([15])- الذي تتلمذ على يد فيكتور كوزان([16]). وكذلك درس الآثَار والتَّارِيخِ([17]) على يد رينيه دو لابلانشير([18])، و”إميل ماسكراي”([19]) و”إدوارد كات”([20])  “صاحب “الوجيز في تَارِيخ الجَزَائِر والذي كان حينذاك أستاذًا في مَدْرَسَة الآدَاب بالجَزَائِر([21]).

 ثقافة مَوْسُوعِيّه وعشق للقراءة:

جمع “جوتييه” بين الثقافتين العَرَبِيَّة والأُورُوبِّيَّة، وأتقن اللغتين العَرَبِيَّة والفَرَنْسيَّة، وألّمَ باللُّغَات الأجنبية، وكان مترجِمًا ومحقِّقًا من الطِّرَاز الأَوَّل، وحاز “جوتييه” على احترام المثقفين العَرَب;الأُورُوبِّيين وتقديرهم.

كما كان صاحب ثَقافَة مَوْسُوعِيّه، عاشقًا للقراءة في العلوم والآدَاب كافة، خاصةً ما يتعلق بالإِسلام وحضارته وآدابه، <وما وجدناه من مؤلفاته وتَرْجَمَاته وتَحْقِيقاته من العَرَبِيَّة للفَرَنْسِية يؤكد أنه كان على حظٍّ وافرٍ بالمَعْرِفة اللُّغَويَّة والفَلْسَفِيَّةوالأدَبِيَّة الإِسْلاميَّة.

ارتكزت ثقافته إلى حدٍّ كبيرٍ على قراءاتٍ مستمرةٍ في الْكُتُب المتوفرة في عصره، واستمدَّ الكثير من تَحْقِيقاته منها، خاصةً كُتُب ابن رُشْد وابن طُفَيْل والْغَزالِيّ والكِنْدِىّ والْفَارَابِيّ وابن سِينا كما اطَّلع على أعمال ومؤلَّفات أقرانه من المُسْتَشْرِقين واكتسب بذلك خبراتٍ واسعةً غنيةً من أهل الشَّرْق وبني جلدته أهل الغَرْب.

 أعطى اهتمامًا خاصًا باللُّغَة العَرَبِيَّة، ودرسها نظريًّا وعمليًّا، درس كِتَاب “برينييه Bresnier”([23]): “دروس عملية ونظرية في اللُّغَة العَرَبِيَّة”[24] واستعان به في أبحاثه([25]).

وكذلك كِتَاب الكونت دي (لاندبرج -Landbeg ([26]): “اللُّغَة العَرَبِيَّة ولهجاتها”[27] وكِتَاب (رينييه باسيه-;René Bassel) ([28]): “الشِّعر الْعَرَبِيِّ في العصر وهو الجاهِليّ”([29].

كما قرأ في التَّارِيخِ والحَضَارَة والأدَب والأَسَاطير، فقرأ بطبيعة الحال “ألف ليلة وليلة” و”عنتر بن شداد”.. إلخ([30])؛ كما درس واستعان بكِتَاب “سلفستر دي ساسي”: “منشورات في حوادث مختلفة من تَارِيخ العَرَبْ قبل الإِسْلام [31]واطَّلع على كِتَاب “كوسان دي برسيفال”([32]) Caussin de Perceval): “بحث في تَارِيخ العَرَبْ قبل الإِسْلام” كتاب “ديفيرجيه” بِلاد العَرَبْ ([34]) وكِتَاب “باوتس[35] “تعليم مُحَمَّدعن الوحي”([36]) وكِتَاب “أزبرن-[ 37]: “الإِسْلام في عصر خلفاء بَغْدَاد [38]”وكِتَاب “سل- [39]: “عقيدة الإِسْلام” [40 ] كما استعان في أعماله بكِتاب المُسْتَشْرِق اليهودي المجري “إجناس جولدتسيهر”[41]  “تقديس الأولياء عند الْمُسْلِمِين”([43])، وكِتَاب المُسْتَشْرِق الدانماركي أوجست مهرن[44 ]”عرض الإصلاح الإِسْلامي الذي بدأه الأَشْعَرِيِ في القرن الثالث” [45] كِتَاب “راينهارت دوزي [46] “بحث كِتَاب البارون “كارادي فو”([48]): “الإِسْلام, العقلية السَّاميَّة والعقلية الآرية”.

صفوة القول فيه، إنه كان صاحب عبقرية متعددة الجوانب والثَّقَافات وليس صاحب اهتمامٍ واحدٍ كما رأينا من قراءاته المُتنوِّعة السابقة، فقد كان عاشقًا للقراءة مستبحِرًا في الفَلْسَفَة والآدَاب، تلك صفاتٌ عُرف بها “جوتييه” وشهدت عليها أعماله.

https://anbaaexpress.ma/3rgr3

د/ أنور محمود زناتي

أكاديمي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى