
في أجواء مشحونة بالتوتر والغموض، انطلقت أعمال قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مدينة لاهاي، حيث يحاول قادة الدول الأعضاء الـ32 الحفاظ على وحدة الصف ومظهر القوة في مواجهة تحديات استراتيجية متصاعدة، تتقدمها الحرب في أوكرانيا، والتوتر مع روسيا، والأهم: الغموض الذي يلف موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب من التزامات بلاده داخل الحلف.
رغم محاولات بعض القادة، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، طمأنة الحلفاء بشأن التزام واشنطن الكامل ببند الدفاع المشترك (المادة الخامسة من ميثاق الناتو)، إلا أن القلق لا يزال قائمًا، خصوصًا لدى الدول الواقعة على حدود روسيا، والتي تخشى أن تؤدي تقلبات السياسة الأميركية إلى إضعاف قدرة الحلف على الردع الجماعي.
يركز ترامب في مداخلاته على قضية الإنفاق الدفاعي، ويعتبر رفع الدول الأوروبية لموازناتها العسكرية بمثابة “نجاح سياسي” يحسب له، حيث يسعى إلى تحقيق توافق على رفع الإنفاق إلى 5% من الناتج المحلي، وهي نسبة تثير تحفظات بعض الدول مثل إسبانيا وسلوفاكيا التي تفضل نهجًا أكثر تدرجًا.
ويتوقع أن يصدر بيان ختامي مقتضب، يصف روسيا بوضوح بأنها “تهديد مباشر” للأمن الأوروبي والأطلسي، وهو توصيف في حال تبنيه سيمثّل انتصارًا للموقف الأوروبي المتشدد تجاه موسكو، في مقابل مواقف ترامب السابقة التي اتسمت بالتساهل في التعامل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أحد أبرز محطات القمة سيكون اللقاء المنتظر بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وسط توقعات بأن يطالب الأخير بمزيد من الدعم العسكري، وفرض عقوبات جديدة على موسكو. لكن العلاقة المتوترة سلفًا بين الرجلين، بسبب مواقف متضاربة في ملفات سابقة، تلقي بظلال من الشك على نتائج اللقاء، خاصة بعد فشل جهود الوساطة التي قادها ترامب في أوقات سابقة بين كييف وموسكو.
تعكس قمة لاهاي هذا العام مأزقًا متصاعدًا يواجه الناتو صعوبة الموازنة بين قوة التحالف العسكرية، وهشاشة الإجماع السياسي داخله، في ظل التغيرات التي تشهدها واشنطن.
فمن جهة، لا يمكن إنكار أن الحلف يتمتع بقدرات ردع كبيرة، وديناميكية في إعادة توزيع قواته شرقًا، وتعزيز الشراكات الدفاعية، لكنه في المقابل يعيش ارتباكًا استراتيجيًا ناجمًا عن غياب موقف أميركي واضح ومستدام.
فالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لا يُخفي استياءه من “عبء الدفاع عن الآخرين”، ويهدد ضمناً بتقليص التزامات بلاده في حال لم يتغير “سلوك” الحلفاء الأوروبيين. وهذا ما يدفع هؤلاء بدورهم إلى تسريع إعادة التسلح، ليس فقط في سياق مواجهة روسيا، بل أيضًا استعدادًا لاحتمال انسحاب أميركي تدريجي من القيادة الفعلية للحلف.
من هنا، تبدو قمة لاهاي اختبارًا فعليًا لقدرة الناتو على الصمود أمام ثلاثة تحديات متزامنة: الضغوط الروسية، الشكوك الأميركية، والانقسامات الداخلية بشأن ملفات أوكرانيا والإنفاق الدفاعي.
وإذا كانت لغة البيانات الرسمية توحي بالتماسك، فإن الواقع السياسي يظهر تحالفًا يواجه لحظة مفصلية، قد تحدد ملامحه للسنوات المقبلة، وربما تدفع أوروبا إلى التفكير جديًا في منظومتها الأمنية بمعزل عن المظلة الأميركية.