آراء
أخر الأخبار

عن “الزّلافة” وعزّام وطرفة الشّاعر عبد اللطيف اللّعبي

ذات يوم من أيّام الله الخوالي، سألني أخي وصديقي الغالي، القاطن أبداً فى شغاف وأعطاف القلوب والأعالي، الأديب الرقيق، والإنسان الأنيق الأستاذ عزّام بونجوع عن مصطلح (الزّلافة).

بعد أن أطريت عنه وعن إسهاماته النيّرة في حقل العالم الأزرق البهيج، أجبتُه بمحبّة الأخ لأخيه، فقلتُ له: كلّ ما فُهْتُ به في حقك أنت جدير، وقمين، وحقيق، ومستحقّ، وأهلٌ له بكلّ تأكيد، فالكلمات لا تنثال على ألسنتنا جزافاً، ولا عبثاً، ولا اعتباطاً، بل إنها تفرض نفسَها فرضاً في تسمية الأشياء بمسمّياتها وأوصافها الحقيقية، ووضع النعوت في أماكنها الصحيحة.

فلا تشكنّ أبدًا في قيمة نفسك، فأنت حقّاً إنسان نبيل وأصيل في أعيننا بتواضعك الجمّ الذي تزداد به علوّاً وسموّاً في قلوبنا، بصراحتك، وسماحتك، ولباقتك، وشياكتك، ولياقتك، ودماثتك، وشيمك، وسجاياك، ومزاياك، وشمائلك. كلّ أولئك لَعَمْري تجعل كلّ مَنْ قيّض الله له حظوة وشرف التعرّف عليك – ولو عبر الفضاء الأثيري الفسيح – يذهب ولا ريب ما ذهبتُ إليه حقاً وصدقاً، وقولاً وفعلاً.

فلك إذن أن تطمئنّ، وزادك الله نوراً على نور، وبهاءً على بهاء، وسمتاً فوق سمت.

أمّا فيما يتعلق بسؤالك عن (زلافة)، فأنا ما زلت أتذكّر خلال السنوات الطويلة التي عشتها بجذلٍ وحبور، وبشغفٍ ومحبّة في أرض الكنانة مصر المحروسة، كنت دائماً أسمع عبارة مثل: “ومع قدوم فصل الشتاء احتسينا صحنَ حساء وقانا من لفحة البرد القارس الذي كان يبدأ في جُنح الليل”.

إذن يمكنك أن تسمّيها: صحن الحساء، ويقال لها كذلك في العديد من البلدان العربية بما فيها المغرب ومصر: (السلطانية) لأنّ السلطان كان يحتسي فيها حساءَه! شربت سلطانية الحساء.

ويقال لها في مدينة تطوان (شمالي المغرب): (الطّاسة.. وتجمع على الطيسان)، وإن كان لهذا الاسم معانٍ مختلفة في مدن مغربية أخرى من باب احتساء الشراب المُرّ مع الطعام المُزّ، كما يسمّيهما الشاعر الضرير البصير بشّار بن بُرد، وهي (القطعة) أو الطابّا Tapa كما يسمّيها الإسبان وأهل مدن شمال المغرب بتأثير إسباني واضح، وفي الرّيف الوريف تُسمَّى (الطّاسث).

ويشير الباحث الكريم الأستاذ “صدّيق الأيسري” من جهته في هذا الخصوص ضمن تعليق موفٍ له عن “الزلافة”، فيقول: “كلمة الزلافة أو تازلاّفت بالأمازيغية فهي كما ذكرت هو الإناء الذي نتناول فيه الحساء أو الحريرة، وهو مشتقّ من فعل إزلف والذي يعني بالأمازيغية طبخ فوق النار حتى الشّواء أو النضج المتقدّم القريب من الاحتراق، ويسمّى رأس الغنم المشويّ في الريف أزدجيف أو أزليف (باللاّم المشدّدة)، ويسمّى الشّعير المقليّ فوق النار بدون زيت تيزلفين“.

ومعروف في العامية المغربية وربما المغاربية على وجه العموم فإنّ كلمة “مزلّف” تعني الشيء المحروق جداً، أياً كان، سواءً طعاماً، أو شواءً، أو إنساناً، أو حيواناً.

ومن الأعاجيب كذلك، أنه من التعابير الغريبة التي تعلّمتها في القاهرة كلمة (الطنجرة) التي نستعملها في المغرب بمعنى الآنية أو الوعاء المعدني لإعداد الطبيخ. ففي مصر يُقال لها: (الحلّة). وعندما سألتُ أستاذي في جامعة عين شمس المرحوم الدكتور مصطفى الشّكعة (وهو من تلامذة عميد الأدب العربي طه حسين رحمه الله)، قال لي آنذاك: يُقال لها (الحلّة) لأنّ الطعام يحلّ فيها.. !

وهل تدري يا صديقي العزيز كيف يُسمّى بعض إخواننا الكرام في العراق الشقيق التلفزيون؟ (وهو مصطلح وضعه صديقي الكاتب العراقي الكبير وعالم اللغة الجهبذ الأستاذ عبد الحقّ فاضل رحمه الله، الذي وضع تقديماً وافياً وموفياً لباكورة أعمالي الأدبية كتابي “وداعاً أيتها الأعوام” الصادر عن الدار التونسية للنشر عام 1980)، يقال له: (المِشْوَاف).

والأضبارة التي تُجمع على أضابير تعني الأرشيف في مهد الحضارة والفكر الخلاّق العراق، كذلك في بعض الدوائر والدواوين الحكومية، ومثلما هو الحال في عدّة بلدان مشرقية أخرى.

وبخصوص (الزلافة)، وبما أن الشيء بالشيء يُذكر كما يُقال، فدعني أحكي لك بشأنها حكاية واقعية طريفة على عجَل: كنّا أنا والشاعر المغربي الكبير الصّديق عبد اللطيف اللعبي قد شاركنا في وقائع وفعاليات مهرجان الشعر العالمي بمدينة ميديّين عام 2006 بكولومبيا، عندما كنتُ سفيراً للمغرب في هذا البلد الجميل، الذي يُطلق على عاصمته بوغوطا ب”أثينا أمريكا اللاّتينية”، نظراً للمكانة العليا التي تحتلها الثقافة في هذه المدينة الساحرة العملاقة.

وذاتَ صباحٍ باكرٍ، عندما كنّا نازلين في المِصعد من الطابق الرابع لنتناول وجبة الفطور، ثمّ نذهب إلى مقرّ أكبر المهرجانات التي تُقام للشّعر في العالم بهذه المدينة الجميلة (مديين التي لا يذكرها غالبية الناس سوى أنها مرتع أحد أكبر أباطرة تهريب المخدرات في العالم المشهور بابلو إسكوبار)، كان الجوّ بارداً نوعاً ما في ذلك الصباح.

فقال الشاعر الصّديق عبد اللطيف اللعبي لي – وكانت برفقتي زوجتي – قال بالحرف الواحد بعد أن فرّك يديْه باحثاً عن بعض الدفء في أنامله، قال: “علىَ الله ألسِّي مُحمّد نلقاوْ شِي زلافة ديال الحريرة سخونة”…!! (كذا).

فأيقنتُ حينها يقيناً أنّ هذا المثقف الحصيف، والشاعر الشفيف، والرجل الإنساني، والصديق العزيز، يحمل وطنَه معه حيثما حلّ وارتجل. إنه شخص في مُنتهى الطيبة، والخلق الكريم، والدم الخفيف.

شعر بلفحة البرد فلم تَدُرْ بخَلَدِه وبفكره على بُعْد آلاف الكيلومترات من وطنه سوى شربتنا الأثيرة والشّهيرة واللذيذة التي نطلق عليها (الحريرة)، لأنّها خيرُ المُدفّئات، والتي لا يخلو منها منزل خلال شهر رمضان الكريم.

قال الشاعر المغربي زجلاً عنها: “كلّ مَسْخُونٍ فيه ضرُورة… إلاّ الثريد والحريرة”!

ثمّ انطلقنا بعد أن تناولنا وجبة الإفطار إلى الساحة الكبرى التي توجد في قلب هذه المدينة المترامية الأطراف التي تعتبر ثاني أكبر المدن الكولومبية بعد العاصمة بوغوطا، حيث انطلقت الحناجر صادحةً بما لذّ وطاب من الأشعار بمختلف لغات الأرض، بما فيها لغتنا الجميلة… لغة الضاد.

https://anbaaexpress.ma/3h7tg

محمد الخطابي

د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي  كاتب وباحث ومترجم من المغرب عضو الاكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى