شغل المراقبون ما كتبه توم برّاك، السفير الأميركي في تركيا ومبعوث بلاده إلى سوريا، بشأن المنطقة واتفاقيات سايكس-بيكو. وبدا منشور الرجل على منصة (X) مطالعة نظرية موجزة لكن نادرة لما يمكن أن يُفهم من “الترامبية” في النسخة الثانية.
ولئن استشهد الدبلوماسي الأميركي بكلمات الرئيس دونالد ترامب، فإن برّاك، وإن في عجالة، يكشف أنماط التفكير التي تؤسّس للسياسة الخارجية في الشرق الأوسط إن لم نقل في العالم أجمع.
يحمّل برّاك الجنسية اللبنانية. هو سليل عائلة من مدينة زحلة. كان حضر إلى بيروت في تموز 2018 برفقة أبنائه وزار وزارة الداخلية والتقى بالوزير نهاد المشنوق آنذاك بمناسبة تسلمه اخراجات قيد أولاده بعد استعادته مع عائلته الجنسية اللبنانية. قالت صحف ذلك الوقت إنه عبَر عن فرحه وأعرب عن فخره واعتزازه لاستعادته مع عائلته الجنسية اللبنانية.
يعرف برّاك المنطقة. تعلّم العربية وقرأ تاريخها واطّلع على الجدل الفكري الذي تداولته التيارات السياسية العربية لا سيما بعد الاستقلالات. عمل مستشارا في السعودية ما منحه الخبرة في التعرّف على المنطقة قد تكون وراء فتاويه الجديدة بشأن تشكّل الشرق الأوسط. وما بين المحاماة والبزنس والسياسة والدبلوماسية تنقل الرجل برشاقة وحرفية وجدارة لم تبعده عن غرف صنع القرار في بلاده.
توم برّاك هو صديق للرئيس الأميركي دونالد ترامب. يكاد الأخير يتمنى الاستغناء عن الجسم الدبلوماسي الأميركي العريق لصالح أصدقائه. وقد يكون مثال صديقه، ستيف ويتكوف، نموذجا صارخا لتلك التمنيات.
فرغم وجود وزارة الخارجية ومستشارية الأمن القومي (قبل عزل المستشار مايك والتز وتسلّم وزير الخارجية ماركو روبيو مهامه) ووكالة المخابرات المركزية والبنتاغون، وهي التي تتولى عادة مهام السياسة الخارجية، فإن ترامب أوكل إلى ويتكوف بالذات الانخراط في ملفات استراتيجية كبرى كوقف حربي غزّة وأوكرانيا والتفاوض مع إيران. وتوم برّاك داخل هذا النموذج.
تتوسّع مهام الصديق برّاك لتشمل إلى جانب منصبه سفيرا لبلاده لدى صديق ترامب رجب طيب أردوغان في تركيا، مهمة مبعوث واشنطن لدى سوريا التي يرأسها أحمد الشرع. جاهر ترامب بالإشادة به بعد أن التقاه بصحبة صديقه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وبدا أنه يريده أن يكون صديقاً.
وقد لا يكون مستبعداً أن تتمدد مهام برّاك باتجاه لبنان بعد تداول أنباء عن “نقل” المبعوثة الأميركية إلى لبنان، مورغان أورتاغوس، إلى مهام أخرى.
في 25 أيار الماضي كتب برّاك: “منذ قرن من الزمان، فرض الغرب خرائط وحدودا مرسومة ووصايات وحكما أجنبيًا. فقد قسّمت اتفاقية سايكس – بيكو سوريا والمنطقة الأوسع لتحقيق مصالح إمبريالية، لا من أجل السلام. وقد كلّف هذا الخطأ أجيالًا كاملة، ولن نسمح بتكراره مرة أخرى”.
أضاف: “لقد انتهى عصر التدخلات الغربية. المستقبل يعود للحلول الإقليمية، المبنية على الشراكات والدبلوماسية القائمة على الاحترام. وكما شدد الرئيس ترامب في خطابه بالرياض بتاريخ 13 أيار: “ولّت الأيام التي كان فيها المتدخلون الغربيون يطيرون إلى الشرق الأوسط لإلقاء المحاضرات عن كيفية العيش، وكيفية إدارة شؤونكم الخاصة”.
استغربت مراجع أميركية مناسبة هذا الموقف ومعانيه ومقاصده. فالمنطقة هي في جانب وليدة تلك الاتفاقات التي تعود إلى عام 1916 وقد تموضعت نهائيا داخل حدود ما رسمه الدبلوماسيان الفرنسي والبريطاني.
كما أن الحدث التاريخي ما زال عرضة لتقييم لم ينته يتراوح ما بين ضروراته حتى لأهل المنطقة لمنع الفوضى في مجال جيوستراتيجي انسحبت منه السلطنة العثمانية، وآثامه في تقسيم منطقة تركت كأي تقسيم، مظالم لأعراق وشعوب.
ناهيك من تحميل عتاة القوميين العرب ذلك الحدث مسؤولية تعذّر ما ينشدونه من دولة عربية واحدة بعضهم أرادها “ذات رسالة خالدة”.
بدا برّاك في هجاء “الإمبريالية” يطلق موالا تطرب له آذان من تربوا في المنطقة على مقت الاتفاقية وتعليق مشاكلنا على مشجبها. وبدا في العزف على هذا الوتر يتناول مادة متقادمة خرجت من قواميس الجدل الحديث، لا سيما بعد “الربيع العربي” وخصوصا بعد “طوفان الأقصى”، وهو عزف ناشز لا علاقة له بحدث سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا. ولم يجد المراقب رابطا منطقيا بين خروج ذلك المنشور ولقاء برّاك بالرئيس السوري قبل ذلك بيوم واحد.
لا شيء يوحي بانتهاء التدخلات الغربية كما يعلن منشور برّاك. ولا شيء يشي بتغير في النظام الدولي قد يقدم قواعد جديدة لا تقوم بها الدول القوية بالتدخل في شؤون الدول الأقل قوة. هي سنّة التاريخ وقانون صراع الأمم أن ينخرط الكبار في شؤون دول العالم.
قديما كانت فتاوى الأمر تتحدث عن نقل الحضارات ونشر القيّم، وحديثا درّج الحديث عن التدخل كواجب إنساني لا تخلو المنطقة عندنا من مصائب تستدرجه.
قد لا يكون منشور برّاك إلا منشورا عرضيا. غير أن في كلمات “صديق” ترامب ما قد يسيل له حبر كثير في تفسير القول وتأويله. تُقدم الترامبية نفسها متبرئة من إثم أوروبي أرتكب بحقّ المنطقة في عزّ السجال القديم-الجديد بين ترامب وأوروبا.
حتى أن الترامبية الجديدة تأخذ مسافة من سلسلة تدخلات أميركية مباشرة نشرت قواعد وجيوش في بلدان المنطقة منذ ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ولئن تكرر واشنطن خططا للانسحاب من المنطقة لصالح انتقال إلى آسيا الصينية، فإن الولايات المتحدة تمعن يوما بعد آخر في الانخراط في المنطقة والسعيّ لترتيب معضلاتها.
ربما لم يقصد برّاك من منشوره إلا إرضاء “سوق” يحب هذه البضاعة. لكنه من حيث لا يدري أشعل كثيرا من ديناميات الشكّ بشأن ما يقصده بالحكم بإعدام “سايكس-بيكو” وما ترومه الترامبية من وراء ذلك.
في لبنان من اعتبر الأمر مراجعة لاستقلال البلد وكينونته. وفي سوريا والعراق من يعتبر الأمر مراجعة تستدرج تركيا للمطالبة بمناطق “سليبة” في البلدين. وفي المنطقة من اعتبر أن التشكيك بسايكس-بيكو تشكيك في حدود الدول وتحضير لورشة قد تطالها. بالمقابل فإن في الولايات المتحدة من لا يجد في فتاوى برّاك إلا مجرد كلام لا قاعدة له ولا سياق.