في خطوة وصفت “بالتحول التاريخي”، توصلت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، يوم الخميس الماضي، إلى اتفاق طال انتظاره بشأن نظام العبور والحدود في جبل طارق، المستعمرة البريطانية الواقعة على الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة الإيبيرية.
هذا الاتفاق لا يكتفي بتسوية آخر الملفات العالقة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بل يفتح من حيث لم يحتسب أبوابا لتأويلات عميقة تطال النزاعات السيادية في غرب المتوسط، وعلى رأسها سبتة ومليلية المحتلتين، اللتين لا يزال المغرب يعتبرهما جزءًا لا يتجزأ من أراضيه.
الاتفاق، الذي صاغته بدقة دبلوماسية بروكسل ولندن، نص على إزالة الحواجز الجمركية وإلغاء التفتيش على الأفراد والبضائع عند النقطة الحدودية بين جبل طارق والأراضي الإسبانية، ما يسمح بحرية تنقل شاملة تشبه إلى حد كبير ما يطبق داخل منطقة شينغن الأوروبية.
وتعهدت إسبانيا، بموجب التفاهم، بتولي جزء من عمليات المراقبة الحدودية عبر إرسال عناصر من “فرونتكس” إلى الميناء والمطار، وهو ما اعتبره المحافظون البريطانيون تنازلًا سياديا كبيرا لصالح مدريد.
ويبدو جليا أن الاتفاق يحمل ما هو أبعد من طمأنة سكان جبل طارق أو إنعاش النشاط التجاري والاقتصادي في المنطقة، بل يشكل سابقة قانونية وسياسية لإمكانية نشوء أشكال جديدة من “تقاسم السيادة” في مناطق متنازع عليها، خاصة عندما ترتبط بقضايا قديمة تتقاطع فيها شرعية تاريخية بمصالح استراتيجية.. ويكفي التذكير أن جبل طارق وضع تحت الإدارة البريطانية منذ معاهدة أوتريخت لعام 1713، وهو نفس السياق الزمني الذي استكملت فيه سيطرة إسبانيا على الثغور المغربية الشمالية.
التحول الحاصل في جبل طارق يفتح شهية الباحثين ومراكز الفكر الجيوسياسي لإعادة قراءة معضلة سبتة ومليلية، خصوصا في ضوء الموقف المغربي الصارم إزاء استمرار الاحتلال الإسباني لهما.
فإذا كان البريطانيون قد اضطروا بفعل ضغوط ما بعد البريكست إلى قبول تخفيف هيمنتهم على جبل طارق لصالح صيغة تعاونية مع مدريد، فلماذا لا يتم التفكير بإطار مشابه يعيد الاعتبار لموقع المغرب في هذا النزاع الممتد منذ قرون؟
جبل طارق.. تسوية بالتقسيط أم استراتيجية مداورة؟
الاتفاق بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، رغم اعتباره انتصارًا للتنسيق الأوروبي ومراعاة لمصالح السكان، لا يُخفي تناقضاته الجوهرية. فبينما صوّت سكان جبل طارق بنسبة 96% للبقاء في الاتحاد الأوروبي، جاءت إرادة لندن خارجة عن ذلك.
واليوم، بعد ثلاث سنوات من المفاوضات المتعثرة، يعود ملف جبل طارق ليتصدر واجهة النقاش السيادي، ولكن ضمن منطق “المرونة السياسية” لا الحسم العسكري أو القانوني.
الاتحاد الأوروبي، عبر مفوضه ماروس سيفكوفيتش، رحّب بالاتفاق بوصفه لحظة “استثنائية” تعكس تطورًا نوعيًا في العلاقة مع بريطانيا، وتمنح جبل طارق وضعية شبه مستقلة ضمن إطار من التفاهم الأوروبي العام. لكن هذا، في نظر المحافظين البريطانيين، يعد خروجا تدريجيا من السيادة الوطنية، وتنازلا رمزيًا عن مستعمرة لطالما كانت موضع فخر للامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس كما يطلق عليها تاريخيا.
المقارنة مع سبتة ومليلية.. اختلاف السياقات وتشابه جوهر النزاع
إذا كانت قضية جبل طارق تحمل طابعا أوروبيا صرفا، فإن حالتي سبتة ومليلية تتشابكان مع منطق استعماري يتجاوز مجرد السيادة الحدودية. المدينتان، اللتان تحتفظ بهما إسبانيا منذ القرن 15 (سبتة) و16 (مليلية)، تعتبران في الوعي الجمعي المغربي امتدادا للتراب الوطني، لا يقبل النقاش أو المساومة.
بعكس جبل طارق، فإن سبتة ومليلية ليستا موضع تفاوض دولي نشط، والاتحاد الأوروبي لا ينظر إليهما كمنطقتين في وضع خاص. بل إن المدينتين تدمجان إداريا ضمن النظام الإسباني الكامل، وتحظيان بتمثيل برلماني وبلدي داخل مدريد.
غير أن هذا الوضع، على الرغم من ترسيمه القانوني من جانب واحد، لا يلغي الطعن المغربي المستمر في شرعية السيطرة الإسبانية.
وهنا، يبرز المفارقة الحاسمة، إذا كانت بريطانيا، بصفتها قوة نووية وعضو دائم في مجلس الأمن، قد دخلت في شراكة مرنة مع الاتحاد الأوروبي تمكن إسبانيا من إدارة منفذ استراتيجي كجبل طارق، فما الذي يمنع مدريد من حيث المبدأ من اعتماد مقاربة مشابهة في سبتة ومليلية، ولو من باب “التنمية المشتركة” أو “التعايش الحدودي” مع الرباط؟
جيوسياسة الإقليم.. الوقت يلعب لصالح المغرب
المغرب، من جهته، لا يتوقف عن التعبير، عبر خطاباته الدبلوماسية العليا، عن موقفه الثابت بأن سبتة ومليلية أراض محتلة.. ومع تصاعد مكانة المملكة على المستوى الإفريقي والدولي، وتعاظم حضورها في ملفات الأمن والهجرة والطاقة، بات لدى الرباط أوراق تفاوضية قوية لإعادة طرح الملف ضمن المحافل الإقليمية.
ومع ما يعرفه العالم من تحولات في مفهوم السيادة الوطنية المتأثرة بعولمة الاقتصاد، ومرونة الحدود، وضرورة الشراكات العادلة قد يشكل النموذج البريطاني الإسباني في جبل طارق مرآة لإعادة التفكير في الحلول الممكنة لمعضلة المدينتين.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه اليوم ، هل ستقبل مدريد في المستقبل القريب منطق “السيادة المشتركة” أو “التقاسم الإداري” إذا اقترنت بتسهيل التبادل التجاري وضبط الهجرة؟ أم ستواصل الرهان على الجمود التاريخي، الذي لم يعد قادرا على الصمود أمام المتغيرات؟
ما حدث في جبل طارق ليس مجرد اتفاق حدودي، بل تحول جيواستراتيجي يعيد تشكيل خريطة النفوذ في غرب المتوسط. ومن حيث لم تشأ إسبانيا، وربما من حيث لم تقصد بريطانيا، وضع حجر أساس جديد في فهم السيادة والتعايش في مناطق التماس الاستعماري.
أما سبتة ومليلية، فهما الآن أكثر من أي وقت مضى، على طاولة الأسئلة الدولية المفتوحة.