“حين يغيب القانون، لا يظهر الظلم فقط، بل تتولد أسطورة جديدة عن من يستحق الأرض ومن يستحق المنفى”..
تلك ليست عبارة فلسفية عابرة، بل واقع يومي بدأ يتمدد بصمت وخطورة في قلب المجتمع المغربي، حيث تتوالى حوادث عنف واحتكاك بين أفارقة جنوب الصحراء والمواطنين المغاربة، في ظل تراجع قبضة الدولة، وغياب واضح لأي تصور استراتيجي عقلاني لإدارة ملف الهجرة غير النظامية..
إننا لا نتحدث هنا عن موقف عنصري أو رفض للآخر، بل عن سؤال وجودي أعمق إلى أي حد يمكن لبلد مثل المغرب أن يتحمل تناقضات المرحلة، دون أن يتحول نفسه إلى ساحة لصراع هويات مستوردة؟
وهل نحن أمام هجرة طبيعية أم أمام تدفق جماعي يحمل في جوهره مشروعا ثقافيا مضمرا، وتحولاً في بنية السيكولوجيا الجماعية؟
المشهد اليومي في مدن الجنوب، بل حتى في قلب الرباط والدار البيضاء، بدأ يتحول من مجرد تفاعل سطحي إلى تماس محتدم.
شبان يافعون، أغلبهم من دول إفريقيا جنوب الصحراء، يتصرفون لا كلاجئين في حاجة إلى مأوى، بل كجماعات منظمة، تتحرك على أساس شعور داخلي بامتلاك الحق التاريخي في الأرض، متسلحين بما يمكن تسميته “بالوعي القومي الإفريقي الأسود”، أو بما يسمى ب”الافروسنتريك ” وهي أيديولوجيا تنبع من رواسب نضالية ضد الاستعمار، لكنها تنقلب في بعض تمظهراتها إلى رفض للآخر المختلف، أي “الأفارقة غير السود”، والمغاربة على رأسهم.
والمشكلة أن هذا الشعور، حين يصاحب بفراغ أمني، وتواطؤ صامت أو ارتباك من الدولة، يتحول إلى ممارسات فوضوية، عنف جماعي، احتلال للفضاء العام، بل إلى نوع من التمركز العدائي في الأحياء، ما يشبه “جزرا اجتماعية متمردة”، لا تخضع لقانون ولا تعترف بأعراف.
إننا لا نتحدث هنا عن مجرد مهاجرين في محنة، بل عن خطاب ضمني بدأ يظهر في سلوكياتهم اليومية، يؤسس لفكرة “استحقاقهم” للمكان، لا كضيوف بل كملاك بديلين.
وتلك نقطة التحول الكبرى في اللاوعي الجمعي المغربي.. فالمواطن الذي لطالما اعتبر نفسه كريم الضيافة، بدأ يشعر أنه مهدد في بيته، ومحاط بلغة لا يفهمها، ونظرات لا تطمئنه، وحركات قد تنفجر في أية لحظة.
لكن الخطورة الأكبر، ليست في تصرفات بعض المهاجرين الأفارقة، بل في صمت الدولة المغربية وتخاذل مؤسساتها، التي تترك المواطن وحده في مواجهة مشهد غير مسبوق، تدفق بشري مستمر، وجرائم ترتكب دون محاسبة، وفوضى عارمة في الأسواق، والمحطات، والحدائق، وحتى في المدارس، دون أدنى محاولة لفرض منطق القانون أو استعادة هيبة الدولة.
ما يحدث اليوم ليس أزمة هجرة.. إنه أزمة دولة، دولة تدير ظهرها للمواطن، وتتنازل عن أهم وظائفها الحماية، التنظيم، وإنتاج الإحساس بالأمان.
وحين تفشل الدولة في فرض القانون، فإنها تدفع المواطن إلى البحث عن حلول فردية، وغالبا عنيفة أو عنصرية، فيتحول الضحية إلى متهم، ويغدو النقاش نفسه محرفا.. من الحديث عن الحق في الأمن، إلى اتهام الناس بالتمييز.
وهنا تنشأ المفارقة الأخلاقية، هل يحق للمواطن أن يرفض من يسلبه الشعور بالأمان؟ وهل يصبح الدفاع عن الاستقرار الاجتماعي شكلا من أشكال العنصرية؟ أم أن العنف الممارس من قبل بعض المهاجرين لا يمكن تبريره بثقل معاناتهم، لأنه ببساطة ينتج معاناة مقابلة أكثر تجذرا لدى السكان الأصليين؟
سيكولوجيا، إن المشهد الحالي يرسخ شعورا بالمظلومية المقلوبة. فبدلا من أن يكون المهاجر بحاجة إلى التضامن، بدأ البعض منهم يتبنى لغة هجومية، ويتعامل من منطلق “أحقية وجود”، لا حاجة إنسانية، مما يخلق صراعا نفسيا لدى المواطن المغربي الذي يجد نفسه في موقع دفاعي في وطنه، مشوشا بين إنسانيته التي ترفض الكراهية، وغريزة البقاء التي تستنفر كل حواسه.
فلسفيا، نحن أمام لحظة تفكك للمعنى. اللحظة التي تفقد فيها الهوية المغربية توازنها، فتغدو ضائعة بين واجب الضيافة وحدود السيادة. إنها لحظة يتصدع فيها التصور الجماعي عن الذات، وتخلخل فيها مفاهيم التاريخ، واللغة، والانتماء.
إن القومية الإفريقية.. كما تطرح في بعض الشعارات القادمة من جنوب الصحراء، ليست مجرد سردية تحريرية، بل قد تتحول إلى أداة للغزو الرمزي، حين تتغذى على أفكار استحقاق الأرض من منطلق اللون أو الأصل. وذاك، بطبيعة الحال، لا يعبر عن كل المهاجرين، لكنه تيار موجود وينبغي التعامل معه بوعي، لا بإنكار.
المطلوب اليوم ليس طرد المهاجرين، ولا التحريض ضدهم، بل فرض القانون على الجميع دون تمييز، ووضع حد للفوضى المتنامية.
المطلوب هو أن تستعيد الدولة وظيفتها الأصلية.. أن تحمي الكيان الاجتماعي من التآكل، وأن تمنع زرع الأحقاد قبل أن تتحول إلى نيران. لأن ما يغض الطرف عنه اليوم، قد يتحول غدا إلى صراع هويات يصعب احتواؤه.
لن يتحمل المواطن المغربي مسؤولية دولة غائبة، ولن يقبل بأن يتحول إلى “غريب” في وطنه تحت مسمى “التسامح”.
فالتسامح لا يكون مع الفوضى، والتعدد لا يبنى على حساب الأمن، والانفتاح لا يعني التنازل عن الحق في الحياة الآمنة.
وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحا: هل نملك الشجاعة لطرح هذا النقاش دون أقنعة؟ أم سنستمر في دفن رؤوسنا في رمال الخطاب الحقوقي الفضفاض، إلى أن نجد أنفسنا وسط أزمة وجودية لا ينفع معها الندم؟
ملك البلاد هو من يتحمل المسؤولية الكاملة لأنه هو الحاكم الفعلي للبلاد وإلا ستكون هناك فوضى عارمة من قبل الشعب لكي يقوم بالواجب في دفاعه عن نفسه