الشرق الأوسطسياسة
أخر الأخبار

المواجهة التي انتهت قبل أن تبدأ: اثنا عشر يومًا غيّرت معادلات الصراع “تحليل”

في هذه الجولة، لم تكن المعركة معركة توازنات عسكرية تقليدية، بل كانت اختبارًا لإرادات مدججة بالتقنيات، ومنظومات مغموسة في الأسرار

 د. أميرة عبد العزيز

في عالم الصراع الحديث، لا تُقاس نتائج الحروب بما تبثّه الميادين من صور، ولا بما يدوّي من شعارات. وحدها الحسابات الهادئة، التي تُدار في غرف الظل، هي التي تقرّر مَن انتصر ومَن انكسر، ومَن عبر النهر ومَن ابتلعه التيار. لقد انقضت الأيام الاثنتا عشرة من المواجهة بين إيران وإسرائيل، فلم تبقَ سوى الأثر العميق في ميزان القوى، حيث خفَّ صوت الشعارات، وارتفعت كُلفة الحقيقة.

في هذه الجولة، لم تكن المعركة معركة توازنات عسكرية تقليدية، بل كانت اختبارًا لإرادات مدججة بالتقنيات، ومنظومات مغموسة في الأسرار.

نجحت تل أبيب، عبر تعاون محكم مع واشنطن، في أن تُربك البرنامج النووي الإيراني بعمليات جراحية لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تركت ندوبًا في نخاع المشروع ذاته.

أصاب الهجوم أعصاب طهران، بينما عجزت الصواريخ الإيرانية عن الاقتراب من أي رمز استراتيجي إسرائيلي ذي وزن مماثل، حتى بدت الضربات الإيرانية وكأنها رسائل غضب أكثر من كونها أدوات ردع.

ولعل المشهد الأخطر لم يكن في الضربات ذاتها، بل في ما لم يُقال عنها. وصلت يد الموساد إلى حيث يُفترض أن تنتهي الدولة: إلى العصب الأمني في عمق العاصمة الإيرانية.

لم يكن خرقًا بل كان غزوًا صامتًا، أسس تحت الأنوف مصانع طائرات، وسوّق لأهداف بعينها دون أن تستشعر بذلك قيادة الحرس الثوري. لم تكن هذه فحسب سقطة أمنية، بل انهيارًا لمنظومةٍ طالما تغنّت بقدرتها على صيانة الجبهة الداخلية.

لقد كانت المواجهة التي امتدت اثني عشر يومًا أكثر من مجرد حرب خاطفة، بل أشبه بمرآة كاشفة لزيف سرديات لطالما روّجت لها طهران في الداخل والخارج. في أقل من أسبوعين، تهاوت مقولات عقائدية وإعلامية رُفعت لعقود فوق ميادين القتال، فإذا بالحرب تكشف أن الشعارات لا تقي من الصواريخ، وأن القداسة لا تحمي العواصم من الاختراق

في المقابل، نعم، وصلت صواريخ إيران إلى عمق الدولة العبرية، وضربت تل أبيب مباشرة. لكنها لم تغيّر من معادلة الردع شيئًا. فالقدرة على الإيذاء لا تكفي إن لم تغيّر التوازن، وإن لم تردع الطرف المقابل عن تكرار فعله. ولم تُسجّل طهران خلال هذه الجولة أي إنجاز نوعي في حقل الاغتيالات أو الإرباك الاستخباراتي، وكأن الرد كان ملزومًا بالشكل لا بالنتيجة.

المفارقة أن الداخلين كليهما خرجا مثقلين. فالمجتمع الإسرائيلي، على رغم تفوقه العسكري، أظهر ضعفًا نفسيًا غير مسبوق، وعادت الهواجس الجماعية من جديد.

أما إيران، فرغم حفاظ النظام على تماسكه الخارجي، فقد تلقّت ثقة الشعب بقدرات الدولة الأمنية طعنة في الصميم، وهي طعنة لا تلتئم بسهولة في بلد يفاخر بسيطرته على مفاصل أمنه.

وحين نُطلّ على المشهد من زاويته الإقليمية، تتضح الوحدة الثقيلة التي حملتها طهران. لم يتجاوز الدعم سوى كلمات جوفاء من حلفاء صمتوا ساعة الفعل، بينما استندت إسرائيل إلى ذراع أمريكية مفتوحة، سياسياً واستخباراتياً.

زادت عزلة إيران حين قرّرت أن تضرب في غير ميدانها، فخسرت حتى تعاطف الحياديين، وسُمّيت مُعتدية بدل أن تُرى في موقع المعتدى عليه.

أسوأ ما طال طهران لم يكن الخسارة العسكرية، بل انكسار صورتها الرمزية. غابت فلسطين عن الخطاب، غابت القدس عن الميدان، وغاب “فيلق القدس” نفسه عن الحسابات، وكأن الصراع نشب خارج المسرح الذي طالما ادعت امتلاكه. بدا النظام الإيراني – لأول مرة منذ عقود – كأنه في موقع الدفاع عن سيادته لا عن قضية.

لقد كانت الحرب لحظة عري استراتيجي، أظهرت أن القدرة على الرد لا تعني امتلاك قرار الردع، وأن الانفعال لا يكافئ الفعل. خرجت إسرائيل وقد أرسلت الرسالة: يمكننا الوصول إليكم متى نشاء. أما إيران، فخرجت تبحث عن رواية تحفظ ماء الوجه، وتُعيد تشكيل خطاب مقاومة باتت أسسه مهزوزة.

قد تكون الجولة قد انتهت، لكن آثارها طويلة الأمد. فإيران لا تحتاج إلى وقت لتستعيد مواقعها العسكرية، بل إلى زمن لتستعيد يقينها بأنها لم تُهزم.

https://anbaaexpress.ma/nhis5

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى