آراء
أخر الأخبار

ملفات الأموات

وقديما ذهب المثل في القول، فالج لاتعالج، وثلاث لاعلاج لهن مرض يرافقه هرم، وعداوة يخامرها حسد، وفقر ممزوج بالكسل فلا تعالج

اتصل بي الشاب توفيق يخبرني عن وفاة والده لطفي بعد أن لحق بصاحبه عابد الجابري المغربي بيوم متأخرا إلى الأبدية، قلت لنفسي ثلاثا؛ الجابري تعب فترك تراثا للأجيال، والعلوان الحمصي ترك أصدقاء يبكونه.

وقلت ثالثا مات كلا الرجلين بعمر 75 عاما، وإذا امتدت بي السنون وأنا قوي كما حصل مع والدي، فعمر نشيطا حاضر الذاكرة أكثر من تسعين، فهو أيضا زمن مقدر وعمر قصير في الزمن اللانهائي الممتد؟ فهل أمضي على مذهب الخيام في الشعر والمتعة؟ أم الغزالي في الخلوة والنزهة، فأخرج بقصيدة؟ أم المنقذ من الضلال؟

أم على مذهب فتجنشتاين وابن بطوطة، فأدور العالم وأتعرف على زواياه؛ فهناك أكثر من مئة موضع جميل للتعرف والزيارة، فلم أشاهد بعد تاج محل ولا سور الصين وبرج بيزا ولا هرم يوكوتان، ولا ضريح لينين أو تمثال بوذا وحدائق سيلان، ولا شواطيء هونولولو وسخالين وورزازات وتاردونت، وبيتاغونيا وسان فرانسيسكو والبحر الأسود وسامسون، من حيث جاءت والدتي وأجدادي من بني عثمان.

جرت عادة الأطباء بعد موت من مات في المشافي والبرادات، أن تجتمع لجنة اسمها لجنة الوفيات و(العلعلات) (Morbidity & Mortality Committee) أي مناقشة لماذا مات وأسبابه؟ كل ذلك درس عميق لاستيعاب هل كان بالإمكان تفادي ماحصل؟ فيتم تطبيقه للمريض القادم؟

فيمط الطب العمر لحظات أمام دورة جبارة للموت تعمل، فمع شروق شمس كل يوم يأتي إلى الحياة 385 ألفا من البشر، ومع غروب كل شمس يودع الحياة 150 ألفا من الأنام، فيزداد عدد البشر حوالي ربع مليون كل 24 ساعة فبأي آلاء ربكما تكذبان؟

وبذلك يزداد الجنس البشري مع كل ثانيتين ثلاثة نفوس من بني آدم، ومليار واحد كل عشر سنوات؟ وحين يتم استعراض من مات أجدني أتعجب وأتأثر، بين مريض نزف حتى فارق الحياة على الرغم من فزعة الأطباء، كما حصل مع رئيس قسم الجراحة في مشفى الكنائس التسعة (Neun Kirchen) والرجل قابلته للعمل عنده، والرجل اشتكى من ظهره فدخل المشفى الجامعي الأنيق في مدينة هومبورج في منطقة السارلاند فمات في العملية؛ لأن الجراح المهتم غرس نصله مليمترات أعمق في الظهر فنزف فمات، وهي عملية أجريتها في المغرب بنجاح؟

وآخر صدم بصدره الجدار فانثقبت الرئة فمات اختناقا من الداخل وليس من الخارج، وكان مسكينا بعائلة كبيرة، مات وهو يكافح لرزق عياله، فتأملت الموت والحياة ثم كتبت سطورا حزينة مع جنح الليل الأخير (أبو الطرطيرة) ومن دخل عملية لزرع شريان في بطنه إنقاذا لساقيه من البتر فلم تنقذ ساقاه ولم يمش إلى الحياة قط (مريض مرسي)..

(ولا انسى مروان الشوفي السوري في مشفى الإيمان في الرياض من أم دم ملتهبة نازفة أجريت له سابقا على يدجراح سوري لم يحسن عمله ) وثالثة من بيروت تمزق رحمها مع الولادة؛ فلم تشعر إلا وهي في ردهة الإسعاف، وزوجها يبكي، رأيتها تنقل من نفس مدخل الإسعاف جثة بخرقة فتدمع عيناي مع دمعة الزوج المصاب. (مشفى المقاصد) ولا أنس (المضروب بالرصاص والمرأة الراكضة وقذف المني بعد تسليم الروح؟)..

وعدد الموتى الذين أذكرهم أكثر من مجلد وكتاب. بين مريض التهمه الإنتان والقيح، فلم ينفع فيه دواء.

 (الألماني مع بتر الطرف والشاب السعودي مع تكرار البتر لاتنس سامي محمود وصديقنا الكذاب) وبين ثلاثة محروقين وصلوا دفعة واحدة، لم يبق مكان في الجسم إلا وقد التهمته نار البنزين من سيارة نكبت، والأطباء حائرون في العثور على مكان لضخ السوائل والبلاسما، ليموت الثلاثة في ثلاثة أيام لعظم الحريق وشدة النار (مشفى المواساة مقابل العروس التي اعتنيت بها أشهرا) ط.

وأخرى دخلت المشفى لارتفاع السكر؛ فلم يتصلح السكر، ولم ترجع لزوجها الملهوف إلا وقد فارقت الحياة باتجاه واحد إلى المقبرة؟ ويزروها زوجها كل يوم في القبر يريد اللحاق بها ثم لحق  بها، وكان قد تزوج بعد وفاة زوجته من ثانية حبسته عن أولاده من الزوجة الأولى؟..

وشابة أخرى جاءت لعملية مرارة؛ فلم يدرك الجراح أنه والمريضة على موعد مع الموت، في قدر عجيب، وهو الجراح الذي يثقب البطن كل يوم ثقبا بالمنظار، هذه المرة أخطأت يده القصد، ودفعها ملك الموت إلى شريان الوتين فنزفت فماتت (صديقنا المصري في بريدة؟). (وأتذكر الهندي الزبير مع وجبة دجاج البروست لمراهقين سعوديين أبو أن يدفعوا فلما اشتد بالمطالبة طعنوه فأردوه قتيلا بالنزف بضرب الشريان الفخذي)..

وآخر مقطوع الوتين مقارنا مع ابن الخيل وضرب الوريد الأجوف  فوق الكبد، وآخر ذهب يستحم نشاطا ونظافته، فلم يدرك عمق النبع وغدر المياه فينزلق ويتزحلق وهو يجهل السباحة، وخلال دقائق كان الموت رفيقه إلى الأبدية (الكردي والحلبي ذو التبان الأصفر).

ورجل تمدد في البرية، يتمتع بالطبيعة يتأمل السيارات بجنب طريق سريع، فتحدث المفاجأة فتطير سيارة طائشة في حادث مريع؛ فتترك كل الفلا إلا مكانه؛ فتنزل فوق رأسه في قدر مغيب فيعانق الموت ولا يرجع إلى أهله بوصية (خال علوان).

ومريض نقل بعد حادث سيارة بأحد عشر كسرا وتمزق كبد وطحال وقطع يد وذراع فلم ينفعه إسعاف ونقل دم (تغريد مصرية مقارنا مع السيدة الألمانية).

ورجل تسمم ولم يشعر؛ فنقل جثة، وسارع الأطباء في حقن مضاد السم من الاتروبين، وآخر لدغه ثعبان بفحيح فانتفخ الساق وبدأ انحلال الدم، وحار الأطباء في نقل مضاد السم (Antivenom).

ومهندس ودود (أبو طه) جاء لفك الاشتباك حول خلاف في البناء والأتعاب (الفيلا التي بنيتها في الجولان السوري) ليكتشف حشفا وسوء كيلة، فينفعل، فيقع إلى الأرض فلا يقوم إلا جثة منقولا في عربة الموت لأهله مع ساعات السح ؟ أو مريض مصاب بالفشل الكلوي قد تقرحت شفتاه، وجف جلده، واصفر مظهره فقرا للدم (الفلسطيني هرب من المشفى غير مصدق أن معه فشل كلوي).

وقديما ذهب المثل في القول، فالج لاتعالج، وثلاث لاعلاج لهن مرض يرافقه هرم، وعداوة يخامرها حسد، وفقر ممزوج بالكسل فلا تعالج؟ نحن اليوم في يوم البكاء العالمي بعد كشف الغطاء عن حجم الأموات في سوريا وغزة وعظم التضحيات. والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.

https://anbaaexpress.ma/60jua

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى