في تحليل استراتيجي يقدم الأستاذ محد الكيحل، الباحث في الجيوسياسية والعلاقات الدولية، وأستاذ التعليم العالي بالمعهد الجامعي للدراسات الإفريقية التابع لجامعة محمد الخامس بالرباط، قراءة دقيقة في خلفيات الحرب الإيرانية الإسرائيلية وتداعياتها المتشعبة على مستقبل الأمن الإقليمي العربي.
الكيحل، الذي يشغل أيضًا رئاسة مركز إشعاع للدراسات الجيوسياسية والاستراتيجية، يُطل من خلال مقاله الأخير الذي اختار له عنوانًا إشكاليًا: “الحرب الإيرانية الإسرائيلية بدأت ضرباتها بأرض الفرس وانتهت طلقاتها في أرض العرب؟”، ليحرك نقاشًا معمقًا حول ما إذا كانت المنطقة على أعتاب ولادة تحالفات غير تقليدية قد تجمع بين طهران وبعض العواصم العربية في مواجهة تفاقم الغطرسة الإسرائيلية وعودة الاستقطاب الدولي نحو الشرق الأوسط.
ينطلق الكيحل في تحليله من مسلمة جيوسياسية مركزية مفادها أن الشرق الأوسط ظل، لعقود متتالية، مسرحًا دائمًا لصراعات القوى الكبرى ومشاريع الهيمنة، سواء من خلال ما سمي بمخطط “الشرق الأوسط الكبير”، الذي سعت من خلاله الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تفكيك المنطقة، أو من خلال مشاريع النفوذ الإقليمي التي تقودها قوى مثل إيران، التي تسعى لبسط هيمنتها المذهبية من خلال مد “الحزام الشيعي” في عمق الجغرافيا العربية.
ووسط هذه المعادلات المعقدة، يخلص الكيحل إلى أن العرب هم الحلقة الأضعف، ويدفعون اليوم كلفة فراغهم الاستراتيجي وضعف تنسيقهم الأمني والسياسي في وجه هذا الطوفان من التحديات المتقاطعة.
ويشير الأستاذ الكيحل، من موقعه كباحث في القضايا الجيوسياسية، إلى أن الدور الإيراني في المنطقة لا يمكن اختزاله في بعد واحد، فهو مزيج من التطلعات الجيواستراتيجية، والتحركات الطائفية، والسعي نحو ترسيخ حضور عابر للحدود، لكن هذا الدور، وإن بدا تهديدًا صريحًا في نظر البعض، قد يتحول إلى عنصر توازن استراتيجي في حال تم التعاطي معه بعقلانية سياسية وبراغماتية واقعية.
فإيران ليست وحدها مصدر التهديد، بل هناك أيضًا التوسع الإسرائيلي، والدعم الأمريكي غير المشروط له، والاختراقات الغربية المتزايدة للمنطقة، وهي عوامل تُضعف من قدرة العرب على التأثير في المشهد وتضعهم في موقع المتفرج على تفاعلات لا يملكون أدوات التحكم بها.
ويُسجل الكيحل أن اندلاع موجة جديدة من التوترات بين إسرائيل وإيران، بعد عملية “الطوفان الأقصى” وتجدد المواجهات في فلسطين ولبنان وسوريا، كشف عن حدود التهدئة الظرفية التي كانت سائدة، وأعاد خلط الأوراق في المنطقة.
ورغم أن بعض دول الخليج كانت قد شرعت في فتح قنوات تواصل دبلوماسي مع طهران، فإن هذا المسار يبدو مهددًا بالتوقف بفعل التصعيد العسكري المتجدد، وارتدادات الحرب التي بدأت من الأراضي الإيرانية، لكنها ما لبثت أن انسحبت بتداعياتها الثقيلة على الأرض العربية، سياسيًا وأمنيًا.
من هذا المنطلق، يُطرح السؤال الذي يتمحور حوله مقال الكيحل: هل يمكن التفكير في بناء تحالف استراتيجي بين العرب وإيران رغم التناقضات العميقة، وتاريخ طويل من انعدام الثقة؟ وهل تسهم التحولات الجيوسياسية الجارية في دفع الطرفين إلى إعادة قراءة مواقفهما، والانتقال من منطق المواجهة إلى منطق التفاهم المرحلي؟ الكاتب لا يقدم إجابة قطعية.
بل يفتح الباب أمام تفكير استراتيجي جديد، قاعدته أن السياسة لا تبنى على العواطف أو المواقف المطلقة، بل على موازين المصالح، وأن مواجهة التحديات الكبرى – وفي مقدمتها استمرار الاستيطان الإسرائيلي وتصفية القضية الفلسطينية – تقتضي أحيانًا تحالفات غير تقليدية.
ويبرز الأستاذ الكيحل أن الدول العربية لا يمكن أن تستمر في انتهاج سياسات انفعالية تجاه طهران، في وقت تحكم فيه القوى الإقليمية الأخرى، كإيران وتركيا، تحركاتها بمنطق استراتيجي بعيد المدى.
ويؤكد أن المطلوب اليوم ليس إغلاق الباب أمام طهران، ولا الارتماء في أحضانها، بل تطوير آلية عقلانية لإدارة العلاقة معها، تقوم على الوضوح، والتحصين الأمني، والانفتاح المشروط.
وهذا لا يتحقق إلا في سياق عربي موحد، يستند إلى أجندة أمن قومي عربي مستقل، تميز بين أمن الأنظمة وأمن الشعوب، وتضع نصب أعينها المصالح الاستراتيجية لا الظرفية.
ويحذر الكيحل من أن استمرار غياب رؤية عربية موحدة لمفهوم التهديدات، وتباين السياسات تجاه إيران وتركيا وإسرائيل، هو ما يجعل المنطقة عاجزة عن الخروج من دائرة التبعية.
كما أن الحديث عن إيران كخطر يجب استبعاده، لا يكون مجديًا إذا كان الهدف من ذلك هو ترك الساحة فارغة للتغلغل الإسرائيلي والغربي.
المطلوب، بحسب الباحث المغربي، هو أن يتحول العرب من موقع رد الفعل إلى موقع الفعل، ومن سياسة الاصطفاف وراء القوى الدولية إلى صياغة تحالفات متوازنة، تقوم على نفع مشترك، وتراعي موازين القوى الواقعية.
وفي خاتمة مقاله، يعيد الأستاذ محد الكيحل تأطير النقاش ضمن السياق الأوسع للتركيب الجيوسياسي للمنطقة، مؤكدًا أن الخروج من دائرة الفوضى والتنازع لن يتحقق إلا من خلال تأسيس نظام إقليمي جديد للأمن والتعاون الاقتصادي والعلمي، تكون فيه القوى الثلاث الكبرى: إيران، تركيا، ومصر، أطرافًا رئيسية في ضمان استقرار المنطقة واستقلال قرارها.
فالتفاهم بين هذه الأقطاب، كما يقول، هو السبيل لخلق توازن حقيقي يقلب المعادلة من صراعات داخلية تُستغل خارجيًا، إلى شراكات استراتيجية تضمن مصالح شعوب المنطقة.
ويخلص الأستاذ الباحث إلى أن العرب، وهم اليوم ضحايا البنية الجيوسياسية الموروثة عن الاستعمار، لن يخرجوا من حالة الارتهان إلا بتحولهم إلى قوة إقليمية مستقلة، تملك مشروعًا استراتيجيًا متكاملاً، قادرًا على مواجهة الضغوط الخارجية، والتفاعل بإيجابية مع القوى الإقليمية، دون الارتهان لأي طرف.
فالحرب الإيرانية الإسرائيلية، وإن كانت لحظة توتر خطير، إلا أنها قد تفتح نافذة لإعادة بناء التوازنات إذا استوعب العرب دروسها، وقرروا استثمار الفرص بدل إضاعتها، في لحظة تاريخية دقيقة، تفرض عليهم أن يختاروا بين الاستمرار كأوراق في معركة غيرهم، أو أن يتحولوا إلى فاعلين يكتبون مستقبلهم بأيديهم.