ثقافة
أخر الأخبار

ليون جوتييه.. León Gauthier (1862 – 1949م) “الجزء الثاني”

وكان جوتييه ثريًّا في إيراد التعليقات، والحالات، والهوامش، والفَهَارِس، وكان يضع فهرسًا للآيات القُرْآنيّة، وآخر للأحاديث، وثالثًا للأعلام، ورابعًا للغة، وخامسًا للشِّعر،

استمد “ليون جوتييه” ثقافته من روافدَ شتَّى، وليس من ينبوعٍ واحد، بعضها من وراثة أهله وأسرته، خاصة ووالده القاضي، وبعضها من تكوين شخصه وتثقيف نفسه، وبعضها من دراسته وتعليمه، وكلها بعد ذلك تتفق على إخراج مُفكِّر من طِرازٍ فَرِيد، نحن بالفعل أمام حديقةٍ عامرةٍ، لا شجرةَ واحدة، نحن أمام محقِّق للتُّرَاث، ومُترجِم، ومُفكِّر، وفَيلَسُوف، ومُؤرِّخ، ودَارِس للحَضَاَرات، وعَارِف بالْمُوسِيقَى، وفي كل علمٍ من هذه العُلُوم، كان لبحثه أثرٌ، ولرأيه قيمة.

لم يكتفِ “جوتييه” بتحصيل دراسته وثقافته العَامَّة أو الخَاصَّة من الجَزَائِر فقط، أو من الْكُتُب والمَرَاجِع المتوفرة هناك فحسب، فأصقل دراسته وخبرته بالتَجارُب العَمَليَّة ذاتها، فسافر ليتلقى العِلْم إلى ليون (Lyon)، فحصل على شَهَادَةِ اللِّيسَانس من كُلِّيَّة الآدَاب بجَامِعَة ليون في عام 1882م، ثم حصل على شَهَادَةِ الأجريجاسيون (Agrégation) المعادلة للدكتوراه في عام 1886م، ولأسبابٍ صِحيةٍ اعتزل التدريس فترةً من الزمن، ويبدو أنه تغلَّب على مرضه، فاستأنف التدريس في ليسيه بلوا (Bloi) عام 1891م.

ثم حصل على منحةٍ دراسيةٍ لدراسة الفَلْسَفَة في كُلِّيَّة الآدَاب في باريس، حيث تابع دورات بول جانيت (1884-1886)، في عام 1895م، قام بعمل دورة “أوكتاف هوداس” (Octave Houdas) في المَدْرَسَة الخَاصَّة للُّغَات الشَّرْقِيَّة (ESLO)، ثم تزوج، وعاد إلى الجَزَائِر في عام 1895م، وعمل مدرسًا للفلسفة في ليسيه مدينة بليدا (Blida)، (1895).

وفي أثناء التحضير لدبلوم اللُّغَة العَرَبِيَّة في مَدْرَسَة الدِّرَاسَات العُلْيَا في الأدَب، الذي حصل عليه عام 1898م، التقى “ليون جوتييه” بمديره “رينيه باسيه”، عميد مَدْرَسَة الآدَاب، وعميد الاِسْتِشْرَاقِ الفَرَنْسِي في الجَزَائِر في ذلك الوقت، الذي كلَّفه في السنة التالية بدراسة الفَلْسَفَة، حيث كرَّس رسالته عن “حَيّ بن يَقْظَانْ”، الرِّوَايَة الفَلْسَفِيَّة لابن طُفَيْل، والتي تم نشر ترجمتها في عام 1900م.

كلُّ ذلك أدَّى بلا شك إلى تكليفه بتدريس الفَلْسَفَة في المَدْرَسَة العُلْيَا للآداب بمدينة الجَزَائِر عام 1899م، فكانت انطلاقةً فارقةً في تَارِيخ “جوتييه” الفِكْري والثَّقَافِيّ، فقد شكلت تلك المَدْرَسَة العُلْيَا رافدًا من أهم روافد ثقافته وتكوينه الفِكْري، حيث كانت تلك المَدْرَسَة تعيش زخمًا ثقافيًّا رفيع المستوى، ذي روافدٍ متعددة.

فقد مثَّلت المَدْرَسَة العُلْيَا الجَزَائِرية، الانطلاقة الفِكْريَّة للاِسْتِشْرَاق الفَرَنْسِي، وقد بدأت هذه المَدْرَسَة في الظهور منذ آخر السبعينيات، عند إنشاء مَدْرَسَة الآدَاب العُلْيَا 1879، التي أصبحت كُلِّيَّة الآدَاب عام 1909م، بموجب قانون 30 ديسمبر 1909، إلى كُلِّيَّة الآدَاب؛ فهي مَدْرَسَةٌ فكريَّةٌ أثَّرت في الأدَب، والفَنّ، واللُّغَة، والتَّارِيخِ، والعلاقات بين الجَزَائِريين والفَرَنْسِيين، وفوق ذلك كله، أطلقت الاِسْتِشْرَاقِ الفَرَنْسِي من عقاله، فانطلق دعم الجهود الاِسْتِعْمارية في الجَزَائِر، وتُونِسْ، والْمَغْرِب الأَقْصَى، وإفْرِيقْيَا، بل وفي الوطن الْعَرَبِيِّ بأسره، وبفضل هذا الزخم، أخرجت أجيالًا من المثقفين يشار إليهم بالبنان، وظهر فيها جيلٌ من العُلَمَاء، والأساتذة، الذين خدموا الحَضَارَة الفَرَنْسيَّة، بفضل التَّرْجَمَة، والتحليل، والْكِتَابة.

ثانيًا: التخصص

وصل “جوتييه” لأعلى مراتب العِلْم في ذلك الوقت، وهو أُسْتَاذ كرسي لتَارِيخ الفَلْسَفَة الإِسْلاميَّة، واستمر في منصبه هذا، حتى تقاعده عام 1932م، وهو في السبعين من عمره، وتوفي في مدينة لارودوت (La Redoute)، إحدى ضواحي مدينة الجَزَائِر، في 11 مارس عام 1949م.

تخصص جوتييه في تحقيق المخطوطات، وترجمتها أيضًا إلى الفَرَنْسِية، كما تخصص في الدِّرَاسَات الفِكْريَّة المتعلقة بالفَلْسَفَة الإِسْلاميَّة.

تخصصه في تَحْقِيق المَخْطُوطات:

برع “ليون جوتييه” في فنِّ تَحْقِيق المَخْطُوطات أيضًا، فكان واسع المَعْرِفة، والاطِّلاع على المَخْطُوطات ونُسَخِها، ويسعى للحصول عليها، بل ويخضعها لميزانٍ نقديٍّ حسَّاس، وكان يجمع أكبر قدرٍ ممكنٍ من البَيَانَات والمَعْلُومَات، المتعلَّقة بموضوع المَخْطُوط الذي يقوم على تَحْقِيقه، فكان يدرس المَخْطُوطات دراسة دقيقة، وكان يطَّلع على فَهارِس المَكْتَبات (des bibliothèques) المصرية والعثمانية (turques et égyptiennes).

كما كان “جوتييه” واسع الاطِّلاع على كُتُب التُّرَاث ومَصَادِره في مختلف جوانب البَحْث والمَعْرِفة، ومعرفة مناهج المؤلِّفين وتوجهاتهم العِلْمِيَّة، وطرق البَحْث في مصنفاتهم حول شتى العُلُوم، مما يساعد المُحَقِّق على تحرير وتوثيق نُصُوص الْكِتَاب الذي يعمل على تَحْقِيقه، وكان من عادته في التَحْقِيق أن يعمل على تجميع نسخ المَخْطُوطَة المدروسة، والمقارنة بينها، وتحديد منازِل النُسَخ، وعدد أوراق المَخْطُوطَة، ونوع الترقيم الموجودة، ومقاس الصفحة طولا وعرضا، وما تشتمل عليه من سطور.

ولكي يتوصل إلى معرفة النُسَخ المختلفة للكِتَاب الواحد، كان يرجع إلى فَهارِس المَكْتَبَات، والأَعْمَال البِبْلُوجْرَافِيّة، ويتضح من أعماله، أنه يلتزم التحري والتقصي الدقيق للمَخْطُوطَة التي يقوم على تَحْقِيقها.

كان “جوتييه” محقِّقًا من طِرازٍ رفيع، فلم يكن يكتفي بمجرد إخراج النَّص، ومقابلة النُسَخ على بعضها، وإنما كان يدرس النَّص، ويعمل على تخريج النُّصوص، أي ردُّها إلى مَصَادِرها، فإنْ كانت آية قرآنية، ذكر السورة التي وردت بها، ورقمها فيها، وإن كان حديثًا، ذكر المَصْدَر الذي ورد به، وإنْ كان نصًّا من كِتَاب، رجع إليه في مصدره للتثبت منه، وأثبت المَصْدَر، والصفحة التي نقل عنها.

كان يفاضل بين المَخْطُوطات، ويشرح الفروق بينها، ويتعرض للتَصْحِيف والتَحْرِيف فيها، كما كان يقوم بإثبات التعليقات والشروح، كالتعريف بالمواضيع والأشخاص المذكورين في النَّص، وتفسير العبارات الغامضة التي تحتاج إلى بسط ليتسنى فهم المراد منها، وكذلك التنبيه على الأخطاء العِلْمِيَّة التي وقعت في النَّص.

وكان متمكِّنًا من مرحلة الإخراج والنشر، وهي الصورة الأخيرة للكتاب المحقَّق، فكان يلتزم بمقدمة للنص المحقق (مقدمة التَحْقِيق)، ويتناول فيها ببراعة تَرْجَمة مؤلِف المَخْطُوطَة، تَرْجَمة وافية، وأعماله، ومؤلفاته، والتعريف بموضوع الْكِتَاب، وتحليل مادته، وبيان منهجه، ومَصَادِره، والتَحْقِيق، عنوان المَخْطُوطَة، ونسبة الْكِتَاب إلى مؤلِّفه، ووصف النُسَخ المعتمدَة في التَحْقِيق، ذكرًا مصدر النُّسْخَة بلدًا، أو مكتبة، أو شخصًا إذا كانت في حوزة أحد الأفراد، مع النَّص على الرقم الذي تحمله في مكان وجودها.

ويذكر “جوتييه” عدد أوراق المَخْطُوطَة، ونوع الترقيم الموجودة، وإذا لم يوجد، يتم التنبيه على ذلك، مع الإشارة إلى ما قد يوجد من خلطٍ في ترتيب الأوراق إن وجد، ويذكر نوع الخط، ونوع الورق، وجودة الخط من عدمها.

ويتناول جوتييه المُصْطَلَحات الْكِتَابية التي تظهر من خلال المَخْطُوطَة، مثل: التعقيبات، والإحالات، والرُّموز، والمختصرات، وبيان ما قد يعتور النُّسْخَة من تَصْحِيفات وتَحْرِيفات، أو السلامة من ذلك، ومن حيث تمامها، أو نقصها، ووضوحها من عدمه، وبيان ما قد يطرأ على النُّسْخَة من عوادي الزمن، كالتآكل، والخرم، وآثار الأرضية، والرطوبة، والنَّص على تَارِيخ النُسَخ، إذا كان مصرحًا به في خاتمة النُّسْخَة، أو الاجتهاد في الوصول إليه من خلال الخبرة والدراية بالخطوط القديمة، وأنواعها، وتقدير أزمانها، وأنواع الورق، والزمن الذي يقدر له، مما يؤدي إلى زمن تقريبي لتَارِيخ النُسَخ، وإذا ذكر الناسخ، فلابد من التعرف عليه، والتَّرْجَمَة له، مما يزيد في أهمية المَخْطُوطَة، وقيمتها.

وكان يضع الببليوجرافيا (Bibliographie)، والملاحق، والفَهَارِس، والكشافات الهجائية، ومصْطَلَحات عَرَبي فَرَنْسِي، وقائمة الاختصارات المستخدمة في التَحْقِيق (Liste d’abréviations)، ونماذج مصورة من المَخْطُوطَة المعتمدة في التَحْقِيق بعد وصفها، وكان يشرح ذلك أحيانا في مقدمة تَحْقِيقاته.

وكان جوتييه ثريًّا في إيراد التعليقات، والحالات، والهوامش، والفَهَارِس، وكان يضع فهرسًا للآيات القُرْآنيّة، وآخر للأحاديث، وثالثًا للأعلام، ورابعًا للغة، وخامسًا للشِّعر، إلخ، وكان يضع بندًا تحت عنوان: “تَصْحِيحَات وإضَافَات” (Corrections Et Additions)، فيقوم باستدراك ما فاته في التَحْقِيق، أو وقع في خطأ فيه.

يتبع..

https://anbaaexpress.ma/4aoi6

د/ أنور محمود زناتي

أكاديمي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى