د. أميرة عبد العزيز
حين اندلعت الحرب المباشرة بين إيران وإسرائيل في ربيع 2025، اعتقد كثيرون أن الأمر يتعلق فقط بصراع شرق أوسطي مزمن خرج عن السيطرة.
لكن القراءة الأعمق للمشهد تكشف أن هذه الحرب ليست سوى واجهة ظاهرة في لعبة توازنات أوسع يقودها دونالد ترامب، العائد إلى الرئاسة الأمريكية بعقلية رجل صفقات يعرف أن لحظة التفكك الدولي لا تتكرر كثيرًا.
في الخلفية، هناك حراك تفاوضي غير معلن حول مستقبل الحرب في أوكرانيا، وضغط عسكري متصاعد في مضيق تايوان، وداخل هذه التوترات المترابطة، ينسج ترامب استراتيجية دقيقة لعزل إيران تمهيدًا لإسقاط طموحها الإقليمي بالكامل.
إيران، المتورطة عسكريًا في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وجدت نفسها فجأة الطرف الأضعف في ثلاثية عالمية تتشكل في السر: روسيا تسعى إلى صفقة خروج من أوكرانيا تحفظ لها ماء الوجه بعد استنزاف دموي، والصين تحاول التفاوض من خلف الستار لتأجيل حسم ملف تايوان، بينما واشنطن، بقيادة ترامب، تضع كل الأطراف في حالة “تجميد مشروط”، باستثناء طهران التي تُترك لتُستنزف عسكريًا وماليًا في حربٍ لا تستطيع كسبها ولا الانسحاب منها دون كلفة استراتيجية هائلة.
هذه الهندسة الجيوسياسية لا تحدث صدفة. ترامب يعلم أن أي حل في أوكرانيا لا يمكن أن يمر من دون إضعاف موسكو، وأنّ تفكيك نوايا الصين بشأن تايوان يتطلب إظهار الحزم الأمريكي شرقًا، لكنه أيضًا يدرك أن إيران هي “العقدة المركزية” التي تغذي فوضى العالم: من بيروت إلى صنعاء، ومن دمشق إلى غزة.
ولذلك فإن فتح جبهة مباشرة بين إيران وإسرائيل الآن يخدم هدفًا مزدوجًا: إضعاف طهران ميدانيًا، وإجبار موسكو وبكين على الاختيار بين مصالحهما الدولية وتحالفهما مع نظام ينهار.
روسيا، في ظل تصاعد الهجمات على قواتها في شرق أوكرانيا، بدأت تُظهر إشارات استعداد للتفاوض، بينما تنسحب من الدعم العلني لطهران حتى لا تُتهم بالتواطؤ في حرب قد تؤدي إلى تصعيد نووي أو إلى تدخل مباشر من الناتو تحت غطاء حماية إسرائيل.
الصين، من جهتها، أطلقت مبادرات تهدئة مع اليابان والهند وأعادت فتح بعض قنوات الحوار مع إدارة ترامب، في وقت تلتزم فيه الحذر من أي تحرك علني يفسّر على أنه اصطفاف مع إيران وسط حرب مفتوحة قد تهدد استقرار خطوط الطاقة العالمية.
في هذا المشهد، تتحرك إسرائيل بأريحية غير مسبوقة: ضربات جوية في عمق الأراضي الإيرانية، استهداف منشآت عسكرية في سوريا والعراق، عمليات سيبرانية متقدمة، ودعم غربي مفتوح على مستوى المعلومة والسلاح.
ترامب، من دون أن يُعلن الحرب بنفسه، يترك إسرائيل تقوم بالمهمة التي طالما حذّرت منها الإدارات السابقة، لكنه يفعل ذلك في توقيت محسوب، حيث لا تملك إيران غطاءً دوليًا ولا شبكة إمداد مستدامة.
حتى الداخل الإيراني بدأ يظهر تصدعات سياسية واجتماعية، تحت ضغط الحرب، والعقوبات، والخذلان الروسي والصيني الصامت.
الربط بين كييف، تايوان، وطهران لم يعد تحليلًا نظريًا، بل أصبح مسارًا حقيقيًا في تفكير مؤسسة الأمن القومي الأمريكية. الحسم في أوكرانيا يتطلب سحب الدعم الإيراني لموسكو، وتأمين استقرار شرق آسيا يمرّ عبر إخراج إيران من المعادلة الإقليمية، خاصة في مضيق هرمز.
إنها لحظة نادرة في التاريخ الجيوسياسي، حيث تتحول حرب محلية – بين طهران وتل أبيب – إلى رافعة لتفكيك نظام عالمي موازٍ تشكّل خلال العقد الأخير تحت مظلة التنسيق الثلاثي: موسكو – بكين – طهران.
ترامب لا يسعى إلى الدخول في حروب مباشرة، بل إلى خلق ديناميات تجعل خصومه ينهارون بفعل التزاحم. إيران هي أول من اصطدم بهذه المنظومة، ووقوعها في فخ الحرب المباشرة مع إسرائيل أخرجها من كل معادلات الضغط الدولية.
لم تعد قادرة على دعم روسيا علنًا، ولا على مقايضة الصين عبر عقود الطاقة، ولا حتى على ضبط وكلائها في اليمن والعراق ولبنان. لقد بدأت تسقط، لا عبر قصف أمريكي مباشر، بل عبر اختناق استراتيجي تحققه سلسلة جبهات تم إخمادها دوليًا، بينما تُركت هي وحدها تحترق.
لكن يبقى السؤال المفتوح: إلى أي مدى يستطيع ترامب مواصلة هذه المعركة المركبة من دون انزلاق نحو صدام شامل؟ وهل ستصمد إسرائيل في مواجهة استنزاف طويل الأمد إذا ما قررت إيران فتح أكثر من جبهة في وقت واحد؟ وما مصير الداخل الإيراني إذا تراكمت عليه خسائر الحرب والعزلة الدولية معًا؟ هل ستشهد طهران انتفاضة داخلية تُغلق صفحة الجمهورية الإسلامية، أم تنجح القيادة في تحويل الحرب إلى خطاب تعبئة داخلية لإطالة عمر النظام؟ وماذا عن موسكو وبكين؟ هل تضحّيان بطهران لحماية مصالحهما المباشرة، أم تعيدان ضبط التحالفات من خلف الستار بطريقة تبقي إيران على قيد الحياة الجيوسياسية دون إنقاذ حقيقي؟
السيناريو الأكثر احتمالًا هو استمرار الحرب بالوكالة والمباشرة في آنٍ معًا، مع تصعيد محسوب لا يصل إلى حرب إقليمية شاملة. لكن إذا ما قررت إيران توسيع دائرة النار لتشمل مضيق هرمز أو منشآت أمريكية في الخليج، فإن المنطقة بأكملها قد تنزلق نحو تصعيد غير قابل للضبط. في المقابل، قد تسعى قوى إقليمية – مثل السعودية وتركيا – إلى استثمار الوضع لتقديم مبادرات وساطة تحفظ توازناتها وتُظهرها كفاعلين مستقلين.
ما يبدو واضحًا الآن هو أن لحظة المواجهة الكبرى لم تعد احتمالًا نظريًا، بل واقعًا جاريًا، وأن الخروج من هذه اللحظة لن يكون بسيطًا، لا لإيران، ولا لإسرائيل، ولا للولايات المتحدة التي تقود اللعبة من الخلف، وتُراهن على حرب تُنهك الجميع.. وتُخرجها هي وحدها منتصرة.
* أكاديمية وباحثة في العلاقات الدولية