أفريقيامنوعات
أخر الأخبار

جمعية الأطلس.. حين يصعد التراث الجبل ليرقص

فالمغرب، بهذا المعنى العميق، ليس مجرد بلدٍ يحفظ تراثه، بل هو معلمٌ يُعلّمنا كيف نصون أرواحنا حين نصون ترابنا

في ظلال الأطلس الكبير، حيث تتكئ السحب على رؤوس الجبال كما تتكئ الحكايات على أفئدة الأجداد، تنهض جمعية الأطلس، لا بوصفها هيئة ثقافية فحسب، بل ككائن حيّ يسير في الزمن عكس النسيان، ويعزف على مزامير الذاكرة أنشودة المغرب العميق.

منذ أكثر من خمسة عقود، لم تكن هذه الجمعية مجرّد حلم عابر، بل كانت مشروع مقاومة ثقافية هادئة، أُسّس على يد ثلة من الغيورين على التراث، وتوّج بربّانها الحكيم، الأستاذ محمد الكنيدري، الذي لم يكن رئيسًا إداريًا وحسب، بل قلبًا نابضًا ومُلهِمًا كبيرًا، يحمل في صمته وفعله أمانة الجبال وسرّ الوديان.

محمد الكنيدري.. الجبل الذي ينطق باسم الأرض

لا يمكن الحديث عن جمعية الأطلس دون ذكر الرئيس الكنيدري، هذا الرجل الذي يشبه في حضوره جبال الأطلس نفسها: صامتٌ في وقار، عميقٌ في الرؤية، عنيدٌ في الوفاء لتراث لا يُقدَّر بثمن. لم يكن العمل الثقافي عنده ترفًا موسميًّا، بل رسالة حياتية.

بفضل بصره وبصيرته، تحوّلت الجمعية إلى مدرسة كبرى في صيانة الذاكرة الشعبية، فجعل من الفن الشعبي ليس مجرّد فرجة، بل لغة تُدرّس، وحقلاً يُستثمر، ومساحةً تُؤنّث بالجمال والكرامة.

هو الذي فتح النوافذ للموسيقى الأمازيغية والعربية والحسانية لتتنفس، وهو الذي أعاد للاحتفالات الفلاحية والفنون القروية هيبتها وجاذبيتها، وجعل منها مساحاتٍ للحوار بين الأجيال.

مهرجان مراكش للفنون الشعبية.. الأرض ترقص بلغتها

تاج إنجازات جمعية الأطلس يبقى دون منازع هو مهرجان مراكش الوطني للفنون الشعبية، الذي تحوّل على يد الأستاذ الكنيدري إلى أحد أعرق المهرجانات في إفريقيا والعالم العربي.

في هذا المهرجان، لا تُعرض الفنون الشعبية كما تُعرض التحف في المتاحف، بل تُؤدّى بروحها الأصلية، بعرق فنّانيها، ببساطة لباسهم، وحرارة خطواتهم على الخشبة.

إنه ليس احتفالاً، بل طقس إحياء.

ليس مجرد ترفيه، بل فعل مقاومة ضد ذوبان الهوية في العولمة.

هناك، تسمع “العيطة” كأنها ولدت الآن، وترى “أحواش” كأن الجبل ينطق من خلالها، ويُكرَّم الفنان القروي كما يُكرَّم الفيلسوف في قاعات الجامعات.

جسور من نور بين الماضي والمستقبل

لم تبق جمعية الأطلس حبيسة المغرب، بل جعلت من مهرجاناتها فضاءً للحوار الكوني، حيث التقاليد المغربية تلتقي بنظيراتها من الصين والهند وإندونيسيا، وتُظهر أن الفن الشعبي ليس محليًا فقط، بل إنسانيًا في جوهره.

أقامت الجمعية جسورًا بين القرى النائيةوالمنصات الدولية، بين الرواية الشفوية ومناهج البحث الأكاديمي، بين الإيقاع والهوية. وكل هذا، دون أن تخون بساطة الأصل أو تتنازل عن روح الأرض.

جمعية الأطلس.. قلب المغرب وهو ينشد

ليست الجمعية إذًا حافظةَ تراثٍ صامتة، بل حاضنة ولّادة، تعلّم الأجيال كيف ترقص دون أن تنسى، وتغنّي دون أن تنكر، وتُبدع دون أن تقلّد.

ومن خلال العمل الدؤوب للرئيس محمد الكنيدري، تحوّل الجهد الفردي إلى مؤسسة، وتحولت الرؤية إلى رسالة، وتحول الحلم إلى موسم يتكرر في كل مهرجان، في كل رقصة، في كل عين تمتلئ بالدموع وهي ترى الجدة ترقص مع حفيدتها على إيقاع “أحيدوس”.

الختام

جمعية الأطلس، بقيادة الأستاذ الكنيدري، ليست مجرد حارس للذاكرة، بل منارة تضيء الطريق نحو مستقبلٍ لا يفرّط في جمال ماضيه.

هي جبلٌ لا تهزّه الرياح، وصوتٌ لا يُسكت، ونشيدٌ لا يشيخ.

وإن سأل سائل: من يحفظ لنا الروح المغربية في زمن السرعة والنسيان؟

ولا يسعني، وأنا أضع آخر الحروف في هذا المقام، إلا أن أنحني إعجابًا أمام قدرة المغرب المذهلة على صون تراثه في أدق تفاصيل الحِرَف وأرقى تجلياتها: من الزليج الذي يُطرَّز بنبض الأندلس، إلى فنون الخشب التي تحاكي أسرار الطبيعة، مرورًا بأعمال الحديد التي تنقش الزمن بلغة النار.

وما يزيد هذا المشهد بهاءً وسموًا، أن جلالة الملك محمد السادس نصره الله، قد جعل من رعاية هذا الإرث رسالة نبيلة، يُتابعها بعينٍ من حكمة وقلبٍ من وفاء، ويُكرم من اختاروا حراسة الذاكرة بالأمل والإتقان.

إنه لأمر يثير الدهشة ويستحق التقدير، أن يجد التراث غير المادي في المغرب ما يجده من تبجيل ومهابة، حتى كأنه جزء من نبض الدولة وروحها. وليس غريبًا، في ضوء ذلك، أن يغدو المغرب اليوم منارةً تهتدي بها الشعوب، ومدرسةً يتعلم منها كل من رام الحفاظ على ذاكرته، سواء في الوطن العربي أو في أفريقيا.

فالمغرب، بهذا المعنى العميق، ليس مجرد بلدٍ يحفظ تراثه، بل هو معلمٌ يُعلّمنا كيف نصون أرواحنا حين نصون ترابنا.

https://anbaaexpress.ma/komhd

محمد بدوي مصطفى

كاتب وباحث سوداني مقيم في ألمانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى