آراءالشرق الأوسط
أخر الأخبار

بين لعنة الدم وجغرافيا الخديعة.. انكشاف المشروعين في زمن الطوفان

بين طهران التي لبست دم دمشق، وتل أبيب التي تقتات على جراح غزة، تدور آلة التاريخ لا لتعيد نفسها، بل لتخرج من جوف التكرار ملامح زوال مقبل..

حين تتكاثر المشاريع وتضيق بها الجغرافيا، تضطر السنن أن تعيد ترتيب الكارثة، كما لو أن الزمن نفسه يلفظ ما لم يعد يحتمل، وكأن الجغرافيا الضيقة في هذا الركن من الشرق العربي لم تعد صالحة إلا لتقاطع النيران، لا لاحتضان الحياة، في قلب هذه الأرض التي طالما ابتلعت الإمبراطوريات، تدور اليوم أشرس تمثلات الصراع، ليس بين قوتين عسكريتين فحسب، بل بين سرديتين متناقضتين، كل واحدة منهما تلبس عباءة الحق وهي تسير حفاة على جثث الأبرياء. 

بين طهران التي لبست دم دمشق، وتل أبيب التي تقتات على جراح غزة، تدور آلة التاريخ لا لتعيد نفسها، بل لتخرج من جوف التكرار ملامح زوال مقبل.

إيران، التي باعت نفسها كوصي على المظلومية، سقطت في مستنقع الهيمنة المذهبية، وقتلت في الشام ما لم يقتل في حروب الفناء، وأحرقت بغداد كما لم تحترق يوما على يد المغول، ثم جاء السابع من أكتوبر، واندلع طوفان الأقصى، فلم تفهم طهران أن التاريخ منحها لحظة لتكفر بها عن جراح صنعتها بيديها، لحظة تعيد فيها ترتيب أوراقها وتستعيد ما تبقى من شرف السياسة.

لكنها، كعادتها، اختارت المراوغة، تفرجت من بعيد، وراوغت بدم بارد، ثم باعت فصائلها كما باعت قبلها الشعوب التي استنجدت بها ذات يوم.

لم تكن حرب غزة حدثا معزولا، بل ارتجافة جيولوجية نابعة من رحم الربيع العربي الذي لم يقبر بعد، لأنه لم يكن ثورة سياسية فحسب، بل اختلالا كليا في الوعي الجمعي للجغرافيا الناطقة بالعربية.

ولأن إيران اختارت أن تكون سيف الطغيان في وجه أحلام الشعوب، فإنها وقفت اليوم عارية، تائهة بين عاصمتين، واحدة تقصفها إسرائيل، وأخرى تنكرها شعوبها، وما بينهما طهران تبحث عن وسطاء لإنقاذ رأسها..

أما إسرائيل، الكيان الذي ولد في رحم الفوضى الاستعمارية، فقد وصلت إلى ذروتها الدموية، تعيد مشاهد الإبادة بكل دقة، لا لشيء سوى لتثبيت رعبها كسياسة، ولأنها تدرك أن استمرارها مرهون بإفناء من حولها.

لكنها لم تدرك أن زمن الرعب لم يعد مطلق السيطرة، وأن الشعوب التي وئدت ذات ربيع بدأت تعود كطيف طويل من الغضب المزمن.

إن السابع من أكتوبر لم يكن فقط طوفان سلاح، بل طوفان وعي، كشف زيف المواقف، وساوى بين الأنظمة في عريها، وأعاد تعريف الصراع خارج معادلات الردع، إلى موازين الانكشاف، وخلخل محاور التحالف حتى أصبحت طهران تبحث عن مظلة للاحتماء من حجارة كانت تصفق لها ذات يوم.

الصراع الإيراني الإسرائيلي ليس مواجهة بين خصمين، بل فضيحة مزدوجة في ساحة مفتوحة، كأن الشعب الفلسطيني بات ساحة تجريبية لكل من أراد شرعنة استبداده، بينما الموت يعيد رسم خرائط المعنى من جثث الأطفال في غزة، ومن أزقة خان شيخون، ومن صرخات النجف وسجون الأهواز. لا فرق بين القاتل بصمت، والقاتل بقصف، وكلاهما يكتب بلغة الضحية.

إننا أمام لحظة تاريخية لا تعترف بالتوازنات التقليدية، لحظة يشبه فيها التاريخ نفسه، لكنه لا يعيد ذات الملامح، بل يلفظ كل من استثمر في الخراب، وكل من تاجر بمقاومة بلا كلفة. هذا الصراع ليس سوى تصادم مشاريع أيديولوجية استبدادية تتنافس على احتلال العقول قبل الأراضي.

فإسرائيل، التي تعيش حالة هلع استراتيجي منذ السابع من أكتوبر، لم تعد تملك قدرة على احتواء الذاكرة، ولا السيطرة على السردية، وكل صاروخ تطلقه على غزة يفقدها شيئاً من شرعيتها الوهمية. وإيران، التي تطالب أمريكا بالوساطة، بعد أن أحرقت سوريا والعراق ولبنان واليمن بذرائع الطائفة، لم تعد تملك سوى قناعها المهترئ لتستر به جراح التمدد المذهبي الذي استحال انكماشا وجوديا.

كلاهما اليوم يقف عند تخوم السقوط، لا لأنهما انهزما عسكرياً، بل لأن مشروعهما كشف، وتعريته باتت مطلقة.

أما الشعوب، فإنها لم تعد تقرأ منطق القوة، بل تقرأ منطق العدالة، حتى ولو كانت مشنوقة على معابر رفح أو تحت أنقاض خان يونس.

وإذا كان الطغيان قد لبس جلد الدين ذات يوم ليبرر جريمته، فإنه اليوم يتعرى في وضح النهار، وتبقى الدماء التي نزفت في الربيع العربي، في حلب ودرعا والموصل وغزة، شاهدة على أن المظلومية لا تتقاسمها الميليشيات، ولا تتحدث بلهجة المراجع، بل تسكن في دمعة أم لم تجد قبر ابنها، أو في صرخة طفل فقد كل شيء إلا جوعه.

وحين تعجز السياسة عن استيعاب هذا التحول، تضطر السنن أن تعيد ترتيب المأساة، لا لتكتب النهاية، بل لتستأنف التاريخ من نقطة الطوفان، كما تفعل غزة اليوم..

وللحديث بقية..

https://anbaaexpress.ma/ulymj

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى