يمر رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، بمرحلة دقيقة تنذر بإعادة تشكيل المشهد السياسي في البلاد. فقد جاء تقرير للوحدة المركزية العملياتية (UCO) الجهاز التابع للحرس المدني المتخصص في مكافحة الجريمة المنظمة، ليفتح الباب أمام عاصفة سياسية وقضائية غير مسبوقة، بعدما وجه اتهامات خطيرة بالفساد واستغلال النفوذ ضد النائب البرلماني وسكرتير التنظيم في الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني (PSOE)، الرجل الثالث في هرم القيادة.
هذه التطورات وضعت سانشيز، الذي طالما روج لخطاب الشفافية والنزاهة، في موقف لا يحسد عليه.
إسبانيا التي تحقق أرقام غير مسبوقة في مؤشرات التنمية و السياسات الاجتماعية، و تحول إقتصادها إلى الاقتصاد الأكثر صلابة في الفضاء الأوروبي، و قبل يوم واحد فقط إستطاعت تقاسم السيادة على صخرة جبل طارق مع المملكة المتحدة، مع ما تعنيه من نصر معنوي و إعادة التموقع الاستراتيجي في واحد من أهم الممرات البحرية، هي الان بين ضغط الشارع و الصحافة من جهة وعيون المعارضة، وقلق الحلفاء من جهة أجرى.
بينما اختار رئيس الحكومة أن يواجه الأزمة بخطاب صريح عبر فيه عن أسفه و قدم إعتذاره للشعب الإسباني و منخرطي حزبه، وأعاد التأكيد على موقفه الأخلاقي حين قال:
للأسف، لا وجود لصفر فساد في هذا العالم، لكن يجب أن يكون هناك صفر تسامح عندما يحدث الفساد..
لكن هل يكفي هذا الموقف الأخلاقي للنجاة من تداعيات الزلزال السياسي؟
ما يثير القلق اليوم هو أن الأزمة طالت النواة الصلبة المحيطة برئيس الحكومة، وليس مجرد شخصيات ثانوية، مما يهدد ليس فقط مستقبل سانتشيز السياسي، بل تماسك الاتلاف الحكومي الهش، و سقوط حكومة أول تحالف يساري منذ الجمهورية. ويغري المعارضة اليمينية واليمين المتطرف بالمضي نحو تقديم ملتمس رقابة داخل البرلمان، وربما المطالبة بانتخابات مبكرة.
غير أن من يعرف سانشيز يدرك جيدا أن الرجل لا ينهار بسهولة. فمنذ أن اقتحم المشهد السياسي من موقع غير تقليدي، ظل يكرر درسه الأول: لا مقاومة بلا أمل، ولا انتصار بلا ثمن..
وقد عبر عن هذا المسار في كتابه المعنون بدليل المقاومة.. (Manual de resistencia)، الصادر سنة 2019، والذي لم يكن مجرد سيرة ذاتية، بل بيانا سياسيا أخلاقيا لرجل قرر أن يصنع مصيره بيده.
هنا سنعرض بعض ماكتب حوله مترجما من الإسبانية..
“في هذا الكتاب، يستعرض سانشيز رحلته الشاقة منذ انتخابه أمينا عاما للحزب سنة 2014، ثم إجباره على التنحي سنة 2016 لرفضه الانصياع للمؤسسة، واستقالته من البرلمان كنوع من الاعتراض، إلى أن عاد من جديد سنة 2017، متكئا على دعم القواعد الشعبية، لا على النخب التقليدية.
ولعل أبرز ما يظهره الكتاب هو قناعة سانشيز بأن السياسة ليست فن التنازلات فقط، بل أيضا فن المقاومة والصمود الأخلاقي.
رحلته عبر المدن الإسبانية بسيارته الخاصة بعد عزله، ولقاءه بالمناضلين المحليين، كانت بمثابة تمرين سياسي على بناء الشرعية من القاعدة نحو القمة.
الكتاب لا يخلو من لمسة إنسانية، حيث يروي أثر السياسة على عائلته، ويشيد بالدور الداعم لزوجته وابنتيه. كما يعبر عن مواقفه في ملفات معقدة مثل أزمة كاتالونيا، العدالة المناخية، المساواة، وأوروبا، وكذا أن القيادة لا تستورد بل تنتزع بالإصرار والوضوح الأخلاقي..”
لكن يبقى السؤال المطروح اليوم:
هل تنفع كل هذه التجربة في لحظة تتاكل فيها الثقة، ويغدو الخط الفاصل بين الخطاب والممارسة أكثر هشاشة؟
وهل يستطيع سانشيز أن يحافظ على وهج المقاومة، في وقت تتآكل فيه الجدران من الداخل؟
ما هو مؤكد أن الأيام القادمة ستكون حاسمة، وأن إسبانيا أمام مفترق طرق سياسي.
غير أن الرجل الذي واجه “الانقلاب” السياسي مرتين، لا يبدو ممن يرفعون الراية البيضاء سريعا.
وربما سيعيد التأكيد، كما كتب يوماً:. القيادة لا تمنح، بل تنتزع بالإصرار، والالتزام، والوضوح الأخلاقي..