قال نيتشه ذات مرة: “نحن لا نرى العالم كما هو، بل كما نحن”.
وهذا هو لب المسألة حين نتحدث عن الوعي المهزوم. الوعي، حين ينكسر، لا يحتاج إلى قيد ولا إلى سلاسل، يكفيه أن يصير عاطلا عن مفرداته، غريبا عن نفسه، خاضعا لرغبة من يكتب له ما يجب أن يراه، أو يسمعه، أو يصدقه.
والإعلام، لا سيما في زمن الشاشات المتوهجة لا يقدم الحقائق، بل يقدم ما يشبهها، ما يسمح له السياق بنشره، وما يسمح له السوق بترويجه. وبين هذا وذاك، يتحول المتلقي من شاهد إلى مشاهد، ومن حر إلى أداة يعاد تشكيلها كلما احتاجت الحرب إلى جمهور.
لقد كشفت حرب إسرائيل وإيران الأخيرة أو بالأحرى، الحرب السيكولوجية بينهما، أن المعركة الأولى ليست في السماء ولا تحت الأرض، بل في الأدمغة.
إذ ليست الصواريخ وحدها من تتساقط، بل الحقيقة أيضا تتفتت، تقصف وترمى وتعاد تدويرها في مطابخ إعلامية معقدة، هدفها ليس فقط إقناعك، بل تعطيلك. أن تكون متفرجا خائفا، غاضبا مرتبكا، لا تملك يقينا واضحا سوى ذلك الذي يعرض لك في نشرة الأخبار.
في تلك الحرب الإعلامية، رأينا كيف تصنع الأساطير من حادث، وكيف يعاد تشكيل وعي الجمهور العربي بلغة ثنائية: إما معنا أو ضدنا، إما مناصر لفكرة المقاومة أو متآمر مع محور الشر.. لم يكن المهم ما حدث فعلا، بل كيف نقل الحدث، كيف تم تفصيله بما يناسب الجمهور، كيف بترت مشاهد، وكيف أُعيد تركيب المقاطع المصورة لتصبح مشهدا بطوليا أو كارثياحسب الضرورة النفسية.
إن ما نراه ليس هو ما جرى، بل هو ما اختير لنا أن نراه.. وهنا ينهار الوعي، لأنه يفقد قدرته على التمييز، ويستقيل من مهمته النقدية.
وفقا لنظرية “دوامة الصمت” لعالمة الإعلام الألمانية إليزابيث نويل نيومان، فإن الأفراد يمتنعون عن التعبير عن آرائهم عندما يشعرون بأن رأيهم مخالف للرأي العام السائد، وهو ما تصنعه وسائل الإعلام بعناية.
في زمن الحرب، يصبح الصوت الوحيد الذي يسمعه الناس هو صوت القناة الأقوى، القادرة على صنع وهم الإجماع، فتخفت الأصوات الأخرى، وتنفى الآراء المخالفة، ويصبح الانحياز حالة عقلية لا يراجعها صاحبها.
أما من زاوية الإعلام النفسي، فنحن أمام ما يعرف بـ”التكييف الإدراكي” حيث يعاد برمجة الاستجابة العاطفية لدى المتلقي من خلال تكرار صور ومشاهد تحمل نفس النبرة الانفعالية: بكاء، ركام، نشيد، تهليل، وعنوان عريض يكرس البطل والضحية.
هذه الأدوات ليست بريئة، بل تستهدف المنظومة الشعورية للمشاهد، وتضعه في حالة استعداد دائم لتلقي الرسائل وتكرارها دون تفكير.
في هذه البيئة، لا يعود الإنسان يتلقى الخبر، بل يصبح هو نفسه نتيجة لهذا الخبر. عقله، مخاوفه، مواقفه، وحتى انفعالاته، كلها لم تعد صادرة عنه، بل عن تصميم خارجي أعد بعناية.
وكما قال الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون: “الجمهور لا يفكر، بل يتفاعل”. ولذلك، عندما يهزم الوعي، يهزم التفكير، وتسحب المفردات من العقل كما تسحب الأرض من تحت الأقدام.
خذ مثالا قناة كالجزيرة في تغطيتها للصراع الإيراني الإسرائيلي حين قصفت قاعدة العديد الأميركية في قطر، كان الصمت هو العنوان.. صمت مشحون، لا يدين ولا يبارك. اختنقت اللغة، لأن الخطاب الإعلامي الذي شحن سابقا ضد إيران لم يترك للمنصة خيارا واضحا حين صار مسرح المعركة في دارها.
وهكذا تتجلى الأزمة: ليس في القصف، بل في التناقض البنيوي بين ما تريد قوله، وما لا تقدر على الاعتراف بها.
إننا لا نعيش فقط في زمن ما بعد الحقيقة، بل في زمن ما بعد المعنى، حيث تحاك الرسائل بعناية لتفريغ العقول لا لملئها.
فالإعلام في معناه النفسي، هو إدارة للانتباه، وإعادة توجيه للغضب، وتحكم في الإدراك الجمعي. ما يقال في الشاشات ليس سوى جزء من الحكاية، أما ما لا يقال، فهو ما يحدد طبيعة الصراع الحقيقي.
عندما يقال لك إن “إيران قصفت”، فهذا لا يعني أن الرسالة هي القصف ذاته، بل ماذا ستفكر بشأنه؟ من ستحب؟ من ستكره؟ من ستحمل المسؤولية؟ من سترفعه على كتفيك بطلا؟ ومن سترجمه بخيانتك؟ هذا ما تفعله وسائل الإعلام: لا تصوغ الحدث، بل تصوغك أنت من خلال الحدث.
إن انهيار الوعي ليس لحظة مفاجئة، بل تراكم خفي، يبدأ من الثقة العمياء في الشاشة، ويمر عبر التكرار، ثم يتحول إلى قناعة بأن لا حاجة للبحث، لا ضرورة للتحقق، لا وقت للسؤال. ومع الوقت، يصبح من يستفسر.. متهما ومن يشكك، خائنا. ومن يفكر خارج السرب، خارجا عن الوطنية.
هنا نعود إلى العبارة الأساسية:
“الوعي المهزوم لا يجد مفرداته حين تضرب الحقائق قلبه.”
لأن تلك المفردات لم تعد ملكه. لأنها صودرت منه منذ زمن، حين سلّم عقله لمنصات تتحدث باسمه. فالحقائق حين تهبط على عقل أعزل، لا يستطيع هذا العقل إلا الصمت أو العويل، ولا يملك قدرة على التحليل، لأن أدواته النقدية أتلفت، وأجهزته الإدراكية نسفت بموجات من الصور، والعبارات، والفتاوى، والمقاطع الدرامية.
في النهاية، لا يكمن الخطر في الإعلام الكاذب فقط، بل في “الإعلام الناقص” الذي يقول نصف الحقيقة، ويترك النصف الآخر يدفن في أرشيف المسكوت عنه.
ولذلك، فإن المعركة الحقيقية ليست على الأرض فقط، بل في الرأس، في الكيفية التي نفهم بها العالم، وفي القدرة على استعادة المفردات التي تجعلنا بشرا أحرارا لا مجرد عيون تحدق في شاشات تختار لنا متى نغضب، ومتى نصمت، ومتى نصفق.