آراءسياسة
أخر الأخبار

الرماد في سيناء.. وحفل الشواء في واشنطن: من غزة إلى قناة السويس لعبة الأمم على جسد الكنانة

بقلم: د. أميرة عبد العزيز

في عتمة الحروب الناعمة وتحت ستار المبادرات الإنسانية، تُحاك واحدة من أخطر المؤامرات في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. هذه ليست مجرد لعبة قوى كبرى ولا عبثًا استراتيجيًا عابرًا؛ بل مشروع متكامل لإعادة صياغة المنطقة، يتمركز حول فكرة واحدة: تحييد مصر، أو بالأحرى، إسقاطها تدريجيًا دون إطلاق رصاصة واحدة.

كل المؤشرات، والأحداث، والشروخ المتزايدة في جسد الجغرافيا السياسية تدل على شيء واحد: مصر ليست مجرد متفرج في أحداث غزة أو إيران أو البحر الأحمر أو سد النهضة، بل هي المحور الحقيقي الذي يدور حوله مشروع إعادة التشكيل الإقليمي. ومن لا يرى هذا، فقد فاته أن الخرائط لا تُرسم بالحبر، بل بالدم والصمت والتطويع.

منذ السابع من أكتوبر، حين انطلقت عملية “طوفان الأقصى”، تغيّر ميزان السرد. لم تكن فقط مواجهة عسكرية، بل كانت – في جوهرها – عملية تفكيك ممنهجة لبوابة مصر الشرقية.

مشهد غزة المحاصرة تحوّل بسرعة إلى كرة نار تُرمى في حضن القاهرة، ومع كل قذيفة تسقط في رفح، كانت تُصاغ رواية جديدة: “النجاة الوحيدة للفلسطينيين تمرّ عبر مصر”. بهذا السطر بدأت آلة الضغط، مدججة بالإعلام والمنظمات الدولية والدبلوماسية الأمريكية.

ثم جاءت قوافل “الصمود”، لا كرمز للتضامن، بل كأداة اختراق. أرادت القوى الدافعة لها أن تُجبر مصر على فتح معبر رفح دون شروط، على أن يتحول الأمر لاحقًا إلى واقع جغرافي جديد، فيه مخيمات دائمة، وبنى تحتية، ومطالبات دولية، وتمركز أمني غربي “لحماية المدنيين”.

بعبارة أوضح: تهيئة الأرض لتهجير ناعم للفلسطينيين إلى سيناء، بتوقيع دولي وبصمت إقليمي.

ومصر؟ رفضت.

لكن الرفض في السياسة الدولية لا يمرّ بلا ضريبة. بدأ العقاب ناعمًا، لكنه متصاعد: تقارير حقوقية مشبوهة، تلاعب في تصنيفات المؤسسات الدولية، تأخر في دعم القروض، وتضخيم ممنهج للأزمات الاقتصادية.

ثم جاءت الضغوط الوقحة على قناة السويس: مطالبات أمريكية بمرور السفن العسكرية والتجارية بالمجان، وكأن الشريان المصري الذي رُوي بدماء العمال صار “ممراً دولياً مشاعًا” تخضع مصر فيه لقرارات خارجية.

أيضًا، لا يمكن فصل كل ذلك عن حرب المياه المؤجلة. ملف سد النهضة – الذي هدأ ظاهريًا – يبقى جاهزًا للإشعال متى ما أرادت القوى الكبرى تصعيد الضغط. إثيوبيا، في هذا السيناريو، ليست أكثر من “كارت جيوسياسي”، يُستخدم لتذكير القاهرة بأن ظهرها ليس محميًا، وأن الجبهة الجنوبية مفتوحة على احتمالات موجعة، إذا لم تلتزم بالمطلوب.

وفي الظل، تتحرك بعض الدول الخليجية بعقلية الصفقة: تدعم من يلتزم، وتُحاصر من يرفض. فالمال السياسي الآن هو ذراع واشنطن في المنطقة، يُستخدم لتركيع العواصم التي لا تنصاع، أو لاستبدال الأنظمة التي تُصرّ على اللعب خارج قواعد اللعبة الجديدة. ومصر ليست مستثناة من هذا السيناريو.

ليس ذلك كل شيء. هناك إعادة تشكيل لمنظومة البحر الأحمر. قواعد عسكرية تظهر فجأة في دول أفريقية مجاورة، وجود عسكري غربي متزايد في اليمن، وأمن ملاحي تتقاسمه إسرائيل وأمريكا.

وفي المنتصف، مصر التي يُراد تحييد دورها الاستراتيجي، لتصبح مجرد ممر مائي، لا فاعلًا سياسيًا. ومع ذلك، بقيت القاهرة ثابتة على موقفها، لا تُفرّط في حدودها ولا تفتح أراضيها لمن أراد تحويلها إلى مخيم لليائسين.

وهنا يبرز السؤال الجوهري:

هل نحن أمام خطة كبرى لإنشاء كيان فلسطيني بديل في سيناء، تُغلق بعده القضية للأبد؟

وهل بات المطلوب من مصر أن تصبح الضامن الأمني الإقليمي لمشاريع دولية لا تشارك في صناعتها؟

بل أكثر من ذلك:

هل طُبخت اللعبة الكبرى لتفريغ الدور المصري، تمهيدًا لتحويل السعودية إلى قطب القيادة الجديد للمنطقة في صفقة أمريكية/إسرائيلية/خليجية؟

والأخطر: ما الذي يعنيه تصاعد التنسيق بين تل أبيب وواشنطن من جهة، والدوحة وأنقرة من جهة أخرى، تحت غطاء الوساطة؟ وهل نشهد، دون أن ننتبه، إعادة إنتاج سايكس بيكو جديدة، تُقسّم النفوذ وتُوزّع الأدوار، فيما القاهرة تُستبعد بهدوء؟

لا يمكن تجاهل البُعد الاقتصادي. التجويع أداة. الضغوط المالية تُستخدم لكسر الإرادة السياسية. وكلما رفعت مصر رأسها في مواجهة تلك المشاريع، كلما اشتدت الخنقة: تقارير، شائعات، تخفيض تصنيفات، شح استثمارات، وربما لاحقًا تحريك خلايا نائمة لتفجير الداخل.

ورغم كل هذا، لم تتنازل مصر عن شبر، ولم ترضَ بترحيل الأزمات إلى أرضها. فالدولة التي تحملت الحرب والانكسار والمجاعة عبر قرون، لن تسمح بتمرير مشاريع دولية على حساب سيادتها.

لكنها اليوم تحتاج إلى يقظة استراتيجية، ورؤية عميقة تتجاوز الردود اللحظية، وإعادة تحالفات على أسس الندية لا التبعية.

وهنا تطرح السيناريوهات الحارقة نفسها:

• هل تنجح مصر في كسر الطوق دون حرب شاملة أو انفجار اقتصادي؟

• هل تمتلك بدائل استراتيجية لتحالفات جديدة في الشرق والجنوب (روسيا، الصين، البريكس)؟

• وهل يمكنها الاستمرار في اللعب على الحبل الدبلوماسي دون أن تسقط في فخ العزلة أو المواجهة المباشرة؟

• ما مصير سيناء إذا استمرت الضغوط الغربية؟ هل يمكن أن تتحول إلى ملف تفاوضي دولي؟

• وأخيرًا، هل نحن أمام مشهد شبيه بما جرى في العراق عام 2003، أو في ليبيا 2011.. ولكن بنسخة مصرية أكثر تعقيدًا وخطورة؟

في النهاية، مصر ليست دولة عادية. إنها ذاكرة الأرض، وعصب العرب، وخط الدفاع الأخير في وجه مشاريع الإزاحة الكاملة. لكن اللحظة مفصلية، والسؤال لم يعد: “ماذا تريد القاهرة؟” بل: “هل يُسمح لها بأن تظل القاهرة؟” والأيام القادمة، لا شك، حبلى بإجابات كبرى

* أكاديمية وباحثة في العلاقات الدولية

https://anbaaexpress.ma/lglsr

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى