عبدُ الله فَضُولْ
يحدث أن تكون معجبًا بمفكر معين، تستلهم أفكاره، تقرأ كتبه بنهم، تستمع إلى محاضراته بتركيز، تتابع أخباره وكأنه مرشدٌ فكري لا غنى عنه. شيئًا فشيئًا، يصبح أكثر من مجرد مفكر، يتحول إلى بوصلتك الفكرية، يملك عليك عقلك ووجدانك، فتراه حاضرًا في كل فكرة تخطر ببالك، وفي كل نقاش تخوضه، حتى تصبح رؤيته للعالم جزءًا من رؤيتك الخاصة، دون أن تدرك أين ينتهي تأثيره وأين تبدأ قناعاتك أنت.
ويحدث أن يغير أفكاره، أن يتراجع عن مواقفه التي كانت تجذبك إليه، أن يتبنى رؤى جديدة تتناقض مع ما كنت تعتبره ثوابت في خطابه. فجأة، يبدو لك مختلفًا، ليس ذلك المفكر الذي كنت تراه مرجعًا، بل شخصًا آخر، يعيد تعريف نفسه أمامك، وكأنك تشهد تحوله لحظة بلحظة.
حينها، تتساءل: هل كان صادقًا فيما قاله سابقًا، أم أن ما يقوله الآن هو الذي يعبر عنه حقًا؟ هل كان تغيّره ضرورة فرضتها تطورات فكرية، أم أنه مجرد تبدّل في الاتجاهات؟ وما الذي يبقى منك حين يتغير من كنت تعتبره منبعًا لفهمك للعالم؟
طبعًا، تشعر بالصدمة، وكأن جزءًا من قناعاتك قد اهتزّ. تحسّ بتناقض بين ما كنت تؤمن به من خلاله، وما أصبح يطرحه الآن. تحاول أن تبرر موقفه الجديد، تبحث عن تفسير يخفف من وقع هذا التحول، تقنع نفسك أنه ربما كان مجبرًا، أو أنه يرى ما لا تراه أنت.
لكن في قرارة نفسك، تدرك أن شيئًا قد تغيّر، ليس فقط فيه، بل فيك أنت أيضًا. لم يعد تأثيره كما كان، ولم تعد رؤيته للعالم منطبقة تمامًا مع رؤيتك. ذلك اليقين الذي كنت تشعر به تجاهه بدأ يتلاشى، ليترك وراءه فراغًا يحتاج إلى إجابة جديدة، ربما من داخلك هذه المرة.
لكن أين الخطأ؟ هل معه، حين غيّر موقفه دون أن يبرر لك التحول الذي أحدثه في رؤيته؟ أم معك، لأنك كنت ترى فيه الحقيقة المطلقة، فبنيت قناعاتك على أفكاره، بدلًا من أن تبنيها على بحثك الخاص؟
هل الخطأ في الثقة المطلقة التي وضعتها فيه، أم في افتراض أن الفكر لا يتغير، وأن الإنسان يظل ثابتًا في آرائه؟ أم أن المسألة ليست خطأ أو صوابًا، بل مجرد حقيقة أن الأفكار تتحرك، وأن التعلق المطلق بفكر شخصٍ ما يجعل كل تغيير يبدو وكأنه خيانة لما كنت تؤمن به؟
لهذا أرى أن الإنسان ينبغي دائمًا أن يترك مسافة بينه وبين أي فكرة أو شخص يتبناه فكريًا، حتى لا يتحول إلى تابعٍ يفقد القدرة على التمييز.
وأن لا يجعل إعجابه بمفكرٍ ما سببًا في تعليق قناعاته الخاصة، بل أن يدرك أن الفكر متغير، وأن البشر ليسوا ثوابت في رؤاهم.
وبإدراك ذلك، يصبح أكثر قدرة على التفاعل مع التحولات الفكرية دون أن يشعر بالخيانة أو الخذلان، لأن لا شيء ينبغي أن يكون مطلقًا، لا في الفكر ولا في القناعات.
* كاتب وقاص للقصة القصيرة جدا