آراء
أخر الأخبار

الإنسان.. كائن استعارة

في زوايا الإدراك الخفية، لا يمكن اعتبار الإنسان كائنا يتذكّر ماضيه فقط، بل كائن يتذكّر ما لم يحدث له قط. تلك المفارقة الوجودية الدقيقة تُخرجه من حدود التجربة والمعيش، وتضعه في منطقة رمادية لا يميّز فيها تمامًا بين ما عاشه، وما تخيّله، وما ورثه من وجدانات الآخرين.

فالإنسان لا يحيا حياته وحدها؛ بل يحمل في داخله حيوات متعددة، عبرت به دون أن يلمسها مباشرة. حكاية سمعها في طفولته وظلّت عالقة في وعيه، قصيدة مزّقت شيئًا داخله، وجهٌ في فيلمٍ أبكاه كما لو كان والده.. إنه يمتلئ بتجارب لم يخُضها، لكنها شكّلته أكثر من وقائع حياته الواقعية.

فما الذي يصنع هوية الإنسان إذًا؟ أهي فقط الأحداث التي مرّ بها؟ أم أن هويته نسيج معقّد من الحنين، والتخيل، والتعاطف، والاستعارات الوجدانية التي تبني فيها المشاعر أعشاشها دون استئذان؟ حين نشعر بالذنب تجاه مذبحة وقعت قبل قرن، أو نرتجف أمام لوحة تنتمي إلى زمن لا نعرفه، أو نكتب شعرًا عن حبّ لم نعشه بعد، فإننا نُثبت أن ذاكرتنا ليست شخصية فقط، بل إنسانية، ممتدة، ومتخيلة.

فالإنسان كائن يُؤمن بحقائق لم يرها، ويتألم من جراح لا يعرف مصدرها، ويشتاق إلى أماكن لم يزرها قط، ويجد في صور الماضي والخيال والعوالم الغائبة امتدادًا لذاته.

كأننا، في جوهرنا، “مخلوقات استعارة”، نُعيد تركيب ما يأتينا من الخارج داخلنا، ثم نتصرف كأنه نابع منّا.

لهذا، لا تُقاس حياة الإنسان بعدد السنين، بل بعدد الذكريات التي عاشها أو صدّقها. كثيرون يموتون وفي داخلهم مدن لم يزوروها، ومواسم لم يعيشوها، وآمال لم تتحقق، لكنها سكنت وجدانهم طويلًا حتى صارت جزءًا من كيانهم.

ولعلّ الفنّ هو الوسيلة الأصدق للتعبير عن هذا العالم الداخلي المتشابك، فهو ليس ترفًا جماليًا، بل ضرورة وجودية. في الفنّ، نُعيد سرد ما لم يحدث، ونُصيغ ما استعصى على اللغة، ونترجم الحنين الغامض، والحزن الذي لا مبرر له، والرغبة في البوح بما لا يُقال.

الإنسان إذًا هو كائنٌ يتذكّر، ويتخيّل، ويتقمّص، ويتحوّل. هو حكاية لا تُروى كاملة، لأنه دائمًا يسكن خارج النص، خارج اللحظة، خارج التجربة الضيقة. إنه الذات التي تسافر بلا جواز، وتحزن بلا سبب ظاهر، وتحبّ دون لقاء.

وهكذا، نحيا حياتنا كما لو كانت صدى لحياة أخرى، نبحث فيها عن المعنى، لا فيما عشناه فقط، بل فيما تمنيناه، وخفنا منه، وصدّقناه… ولو من بعيد.

https://anbaaexpress.ma/kx8as

هشام فرجي

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى