أعجبتني قصة أوردها رئيس الجمهورية الإسلامية السابق (محمد الخاتمي) في كتابه (الدين والفكر في شراك الاستبداد) عن أبي ليث الصفار الذي تمرد على الخلافة وتجمع حوله الأشقياء والعيارون والزعران من كل جنب فحذره البعض من بيعة الخليفة فطلب من مساعده أن يحضر له (كتاب البيعة) فأحضر له العيار سيفا ملفوفاً بخرقة فامتشق أبو ليث الصفار السيف وصرخ هذا هو عهد الخليفة وهو الذي أجلس الخليفة في بغداد وهو ماسيفعله لي؟
وأمريكا اليوم تدعي الديموقراطية وهي تجلس على رقاب العباد بالسيف والديكتاتورين الذين تنصبهم. وحزب البعث جاء إلى السلطة بقطار أمريكي كما ظهر إلى السطح.
ولكنني أتعجب من المفكر (الخاتمي) كيف يتورط في لعبة القوة فهو يتلمظ لامتلاك السلاح النووي وهو يعرف أنه صنم لا يضر ولا ينفع، وهو سلاح ليس للاستخدام. ولكن أن تفوت هذه الخدعة على مفكر من حجم الخاتمي فهي مشكلة.
وما يحدث للخاتمي حالياً حصل للخميني سابقاً؛ فبعد أن طوَّر سلاحاً استراتيجياً في المقاومة فنجح في إسقاط الشاه بالمقاومة المدنية، وسبق أوروبا الشرقية في تحطيم الديكتاتوريات، وارتج الغرب وظن لفترة أن المارد الإسلامي استيقظ.
ولكن الخميني لم ينتبه إلى الاكتشاف الذي حققه، كما حصل مع كولمبس الذي بقي حتى موته لا يعرف شيئا عن فتحه المبين الذي قلب خرائط العالم واتجاه التاريخ، وهو ما حصل مع الخميني، حينما جرته أمريكا إلى الحقل الذي يمكن أن تقهره فيه أي الحرب.
مما اضطر الخميني في النهاية بعد ثماني سنوات عجاف من الحرب المدمرة وموت مليون شاب وخسارة 400 مليار دولار أن يعترف بعجزه فيوقع على الصلح مع صدام مثل من (يشرب السم) على حد تعبيره. وأن يصل عقائدي صارم مثل الخميني إلى هذا القرار فلا ينتحر مثل هتلر فلأنه رجل مسلم تقي.
ومن قبل فعل (ميكادو) اليابان نفس الشيء حينما توجه بلهجة أدبية منمقة إلى الشعب الياباني بعد ضربة هيروشيما وناغازاكي فيقول: إن العدو استخدم سلاحاً خبيثاً ليس لنا به طاقة وأخشى إن استمرت الحرب أن يفنى الشعب الياباني. وتشبه قصة السلاح النووي حكاية المجنون الذي سئل عن الجسر لماذا اخترعه البشر فأجاب: كي يمر النهر من تحته.
وكان الإنسان اكثر شيء جدلاً.
وحين نتأمل تدفق التاريخ نرى مخططاً بيانياً ثابتاً لصعود القوة على حساب العقل، وخلال 3500 سنة من تاريخ الإنسان حسب إحصاءات (غاستون بوتول) الخبير الاستراتيجي الفرنسي فإن كل 13 سنة من تاريخ الإنسان كانت حربا وضربا، مقابل سنة واحدة للسلام.
ثم شهد المخطط البياني انكساراً حاداً لمصلحة الشمال، أو على امتداد خط (واشنطن ـ موسكو) حسب تعبير مالك بن نبي، فكفت طبول الحرب عن القرع، ودخل الناس في دين السلام افواجاً، واليوم تتحد أوربا ليس تحت مدافع نابليون أو دبابات هتلر، بل على كلمة (السواء)، ليس ألمانيا فوق الجميع بل ألمانيا مثل الجميع، وينشأ الاتحاد الأوربي عام 2004م من 25 دولة تضم 450 مليوناً من الأنفس، ما هو اكبر من تجمع الولايات المتحدة الأمريكية، وتشرق شمس اليورو على العالمين.
وهو تطور لا نفهمه إلا مثل وصول ضوء السوبر نوفا بعد نصف ألفية من السنين، والعالم الإسلامي يسبح في فوضى عارمة فهو يعيش عام 2025 م ولكنه نائم مخدر على أحلام عام 1446م.
تجربة باكستان النووية قد تكون درساً لإيران، وفي حرب أفغانستان كان موقف باكستان الدولة النووية مضحكاً فهي وقفت بجانب أمريكا خوفاً على منشآتها النووية.
والسلاح النووي صنع من أجل أن يَحْمَي لا أن يُحمى، وتبين أن صنم لا يضر ولا ينفع، ولكن لم ينتبه أحد لموضع النكتة.
وحسب رؤية (فؤاد زكريا) المفكر المصري في كتابه (خطاب إلى العقل العربي) أن السلاح النووي ليس للاستخدام. ويتساءل المرء ولكن لماذا تصنع مثل هذه اللعب المميتة المهلكة المكلفة وهي ليست للاستخدام؟
حسب (موردخاي فعنونو) الذي خرج من محبسه بعد 18 سنة حبس في صيف عام 2004م أن المنطقة كلها مهددة بالتلوث النووي بعد مرور أربعين سنة على تركيب المفاعل النووي الإسرائيلي، بفعل قانون التقادم. وكما هو الحال في تعزيز اللقاح ضد الأمراض بجرعة (البوستر) فإن أمريكا تفعل نفس الشيء مع قنابلها النووية للتأكد من صلاحيتها في (السيلو = SILO) المخابيء ما تحت الأرضية فتحقنها بالثوريوم وما شابه.
ولكن إسرائيل تراه سلاح المعبد، وبتعبير (سيمون هيرش) خيار (شمشون Samson Option). ففي لحظة الصفر يتم هدم المعبد على رؤوس الجميع. على قاعدة علي وعلى أعدائي.
وقصة شمشون ودليلة موجودة في العهد القديم لجبار كانت قوته في خصال شعره السبعة؛ وإذ احتالت عليه دليلة فقصت شعره تبخرت قوته واستخدموه كالحمار في الرحى، ولكن لم يتفطنوا إلى أن قوته يكسبها من جديد بمجرد نمو بصلات الشعر، وحول المعبد كان الالاف يحتفلون وأمامهم شمشون منه يسخرون مربوط بسلسلتين إلى المعبد؛ فدعا الله وجذب العمودين اللذين يستند عليهما المعبد فهوى عليه والجمهور؛ هكذا تقول الرواية التوراتية وهو مايفكر فيها صهاينة العهد الجديد؟
ويبقى السؤال لماذا ركبت إسرائيل 200 رأس نووي ومن كل الأجيال وكان يكفيها عشرة قنابل من عيار ميجاطن لمسح عواصم العالم العربي؟ هل هي ليوم الفزع الأكبر فتقصف ألمانيا ونصف أوربا وتأخذها معها إلى الجحيم النووي انتقاماً للهولوكوست؟
إن وصف (مناحيم بيجن) الرئيس الإسرائيلي السابق نظيره الألماني المستشار (هيلموت شميدت) بأنه من أبناء القتلة يوحي أن أزمة الهولوكوست القديمة لم يتجاوزها اليهود بعد. وكما وصفهم (جيفري لانج) من خلال زوجته اليهودية التي بقت بعد الطلاق ردحا من الزمن تحمل اسمه؛ أنهم يخافون من انقلاب الزمن عليهم.
وما فعله النازيون شيء فوق الحد والوصف، ولكن لا تزر وازرة وزر أخرى، والجيل الألماني الحالي ليس له علاقة بما فعله آباؤهم النازيون، كما أن الشعب العراقي ليس صدام المصدوم وعلي الكيماوي. وتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.
وإسرائيل بنت قلعتها النووية واكتملت عام 1967م تحت الأرض سبعا أو ثماني مستويات طبقا عن طبق ولكن كارثة مثل (تشرنوبل) قابلة أن تلوث كل منطقة الشرق الأوسط. وإسرائيل جزيرة ضائعة في محيط العرب، ومن سوف يتأذى هم العرب واليهود معاً.
والأوروبيون لم يكونوا أولئك النزيهين ـ كما تكلم (ماهتير محمد) يوما من أقصى الأرض ـ حينما حلوا مشكلة اليهود على حساب العرب، ودفعوا اليهود أن يستوطنوا الأرض عندنا بعد انقطاع ألفي سنة، كي يغلوا ويسلقوا في طنجرة بخارية واحدة هم والفلسطينيون، فإن هلكوا تخلصوا منهم بدون تلويث أيديهم. وإن استقروا هناك ارتاحوا منهم. ونحن نعلم اليوم أنه لا راحة لأحد على وجه الأرض ما لم تحل مشكلة (اسراطين) بتعبير القذافي.
وإسرائيل تمتلك اليوم كل أجيال السلاح النووي من قنابل (انشطارية) و(التحامية) و(نترونية) يضاف إليها القنابل الذكية التي أعطتها أمريكا أخيرا لإسرائيل بزنة نصف طن.
بحيث تثقب طبقة أسمنتية مسلحة لعشرات الأمتار والقصد منها ضرب مفاعل (بوشير) الإيراني المختبيء تحت الأرض بنفس الطريقة الإسرائيلية.
وحسب التصريحات التي قالها يوما رئيس قسم استخبارات الموساد للجهاز الخارجي (ماير داجان Meir Dagan): “إن إسرائيل لم تهدد قط بنفس الدرجة منذ نشأتها كما هو الحال مع السلاح النووي الإيراني”.
وإيران تمتلك حاليا صواريخ (شهاب 3) ومداها 1300 كم وهذا يعني إمكانية وصول الذراع الإيرانية إلى المدن الإسرائيلية، أو كما قال وزير الدفاع الإيراني (علي شمخاني) رداً على نظيره الإسرائيلي (شاول موفاز Schaul Mofas) حينما صرح: “أنه لن يتحملوا قط أن تمتلك دولة شرق أوسطية سلاحاً نوويا تهدد به إسرائيل”.
فقال (الشمخاني) برد لا يقل تحديا واستفزازية: إن إيران سوف تضرب مفاعل ديمونة على نحو استباقي فيما لو هددت بهجوم إسرائيلي. وقد يكون الإيرانيون قد تعلموا الدرس من تحطيم المفاعل النووي العراقي (أوزيراك) عام 1981م.
وحسب تقديرات مفتش أسلحة سابق هو (ديفيد البرايت) فإن إيران التي حولت 37 طن من خام اليورانيوم إلى شكل (الهيكسافلور) بإمكانها أن تصنع خمس رؤوس نووية صغيرة، ولو أرادت تسريع التقنية لضغطت الزمن وملكت قنبلتها الأولى قريباً.
وإيران على علاقة وثيقة بكوريا الشمالية، ويمكن أن تفعل ما فعلته فيكون مصيرها من العزل والفقر مصير (بيونج يانج Pjoegjang). والصحفي (ويليام بفاف) توقع مفاجأة ضرب إيران منذ زمن بعيد فهل نحن على أبواب حرب جديدة؟ و(نورمان بودهوريتس) من الإدارة الأمريكية رأى أن ضرب إيران مسألة وقت وهو لن يحزن إن حصل ذلك؟
أما رأي الإيرانيين كما صرحوا بذلك للأوروبيين في جلسة مغلقة: لماذا كان امتلاك السلاح النووي حلالا للشيطان الأكبر (أمريكا) والأصغر (إسرائيل) وهو حرام على إيران؟
وهذه الحجة يرد عليها الشيطانان بأنه من الخطورة بمكان أن يقع سلاح نووي في يد دول غير ديموقراطية؟
والجواب على ذلك امتلاك الاتحاد السوفيتي سابقا والصين لاحقاٌ لهذا السلاح المروع والكوري كيم سونج أون فالمسألة أبعد من الديموقراطية والديكتاتورية.
والسؤال الجوهري والأخلاقي هو: هل إيران بحاجة لسلاح نووي أم هل إسرائيل بحاجة لسلاح ذري و200 قنبلة نووية؟ أم هل كل العالم بحاجة لهذا السلاح الانتحاري؟
وهل يمكن بناء سلام عالمي بدون الخوف من الردع النووي؟ ويبدو حسب المعطيات الحالية أن هذا غير ممكن.
وسوف تمتلك إيران السلاح النووي كما امتلكته باكستان، وسوف يصل إليه العرب عاجلاً أم آجلاً. ولكن نهاية الرحلة ستكون كما حدث للقوى العظمى، أي اتفاقيات الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، ثم العودة من رحلة السلاح النووي والتخلص منه وهو مكلف مرة أخرى. وهي حماقة مضاعفة.
مع ذلك فالعقل العلمي مفتوح على كل الاحتمالات،وهو سر تخوف الأوروبيين أن تندلع حرب عالمية ثالثة نووية من الشرق الأوسط، وهي قضية ناقشها (فيكتور فيرنر) في كتابه (الخوف الكبير)، ومستقبل الجنس البشري لا يعلمه إلا الله، وقبل سبعين ألف سنة هلك معظم الجنس البشري ولم يبق إلا بضع آلاف بسبب بركان أندنوسي حول غلاف الكرة الأرضية إلى ما يشبه الشتاء النووي. وكل الكتب المقدسة تحدثت عن نهاية وشيكة للعالم، وحماقات البشر لا نهائية.
وكما يقول المؤرخ (جون آرنولد توينبي) أن بعض البشر كانوا يفضلون الانتحار على الاحمرار في مرحلة الصراع ضد الشيوعية. ويذكر وزير الدفاع الأمريكي الأسبق (مكنمارا) بعد مرور أربعين سنة على أزمة كوبا أنه لم يكن يعلم أن الغواصات الروسية التي كانت تحوم مثل سمك القرش في المنطقة تحمل في بطنها صواريخ نووية ومعها أوامر الضرب إذا هوجمت.
وكان يمكن أن تقوم القيامة النووي بحماقة بسيطة ويقتل في أمريكا 60 مليونا من الأنام في أقل التقديرات. وحاليا يمكن لـ 15 طن من الأسلحة البيولوجية إنهاء الحياة غي سطح الأرض، وقدرة السلاح النووي الحالي هو أكثر بمائة مليون مرة من كل السلاح الناري الذي استخدم في الحرب العالمية الثانية؟
وحسب غورباتشوف في كتابه البريستوريكا أن غواصة نووية واحدة تحمل في بطنها اكثر من كل القوة النارية التي استخدمت في الحرب الكونية، وهكذا يمضي التاريخ إلى أجل مسمى، ويخيب كل التوقعات ثم أنتم تمترون؟
جاء في كتاب (القصص الشعبية) لـ (ناثان أوسوبيل) أن محنة عظيمة أصابت مدينة شيلم، فقد قتل إسكافي المدينة واحداً من زبائنه، فجيء به للمثول أمام القاضي فحكم عليه بالإعدام شنقاً. نهض رجال المدينة يصرخون:
ولكن ياسيادة القاضي لقد حكمت بالإعدام على إسكافي المدينة الوحيد فمن يصلح أحذيتنا بعده؟ ردد جميع أهالي شيلم من؟ من؟ فهز القاضي رأسه موافقاً وأعاد النظر في حكمه وقال: يا أهل شيلم الطيبين إن ما تقولونه صحيح فبما أن لدينا إسكافياً واحداً فإن تركه يموت خطأ في حق المجتمع، وبما أن في المدينة شخصان مختصان بإصلاح السطوح، فليشنق أحدهما بدلاً من الإسكافي. فهذا هي قصة أمريكا وإسرائيل وإيران.