آراء
أخر الأخبار

متى كانت الحرب عقلانية ؟

خنادق الحرب العالمية الأولى عام 1916 م كررها الايرانيون والعراقيون، بعد سبعين سنة، في معارك كربلاء والقادسية، في ثماني سنوات عجاف، دامت أطول من الحرب العالمية الثانية، بكلفة فاقت 400 مليار دولار ، وبقرابين بشرية وصلت المليون.

مع كتابة هذه الأسطر تدخل الحرب بين إيران والكيان الصهيوني أسبوعها الثاني فإلى أين المصير؟ ومما أذكر أنه في في شهر غشت من عام 1939 م سافر الفيزيائي الألماني (فيرنر هايزنبرغ) الى أمريكا ليلتقي بصديقه (انريكو فيرمي).

الأول فيزيائي فيلسوف، طوَّر مع زميله البريطاني (بول ديراك) ميكانيكا الكم ، وانفرد بتأسيس مبدأ فلسفي فيزيائي بتدشين مبدأ الارتياب أو اللايقين في حركة الالكتروني، فيرمي يعتبر أول من بنى مفاعل نووي في تاريخ العلم عام 1942 م عندما هتف لروزفلت (رسى الملاح الإيطالي على الأرض الجديدة).

كان سفر هايزنبرغ لسبب غريب ، وحديثه مع فيرمي أدعى للعجب ، سجَّله في كتاب فيزيائي وليس سياسي (الكل والجزء ـ محاورات في الفيزياء الذرية).

وصف هايزنبرغ شعوره على النحو التالي: كيف يتصرف الانسان في العاصفة ؟ أول شيء إيجاد مكان آمن لعائلتي، في جبال بافاريا ، عندما تنهدم المدن الألمانية بقنابل الحرب، والشيء الثاني توديع أصدقائي الذين أحب، فقد لانجتمع وتطوينا لجة الموت ! يعقب فيرمي متساءلاً ؟ الحرب قادمة إذاً ؟ يجيب: إنها سحب قاتمة أراها قادمة عبر الأفق، والذين يعلمون مشفقون منها ويعلمون أنها الحق.

 يسأل فيرمي: أتوقع أن تبقى في أمريكا فهي فرصتك للنجاة ؟ يجيب هايزنبرغ: سأعود لاعتبارين: بناء جيل جديد من الشباب الألمان العلماء بعد أن تضع الحرب أوزارها، ثم إن الانسان وفي سن محددة، ينشأ أفضل مايكون في حوض ثقافي بعينه، شكل قدره، يكون أعظم مايؤثر فيه أو يتأثر منه، وقد تجاوزت هذه السن، لربما كان علي أن أغادر ألمانيا قبل عشر سنوات لقد تأخر الوقت كثيراً الآن.

يسأل فيرمي: طالما كانت الحرب واقعة، هل تعتقد أن النازي سينتصر فيها ؟ يجيب هايزنبرغ بهدوء: سيهزم الألمان بسبب بسيط، أن الحرب تدار اليوم بالتكنولوجيا وألمانيا ليس لها طاقة الحلفاء تكنولوجياً ؟ ثم يعقب يختم حديثه قبل الانصراف: وهتلر يعلم هذه الحقيقة.. ولكن ياصديقي انريكو متى كانت الحرب عقلانية ؟

الحرب تقوم على إيذاء أو أفناء الآخر، ومع هذا فالانسان يمارسها، والحرب تقوم على تحطيم إرادة الآخر، حسب مقولة منظر الحرب الضابط الألماني (كلاوسفيتز): (أنها استمرار للسياسة بوسائل جديدة، تهدف في النهاية الى تطويع إرادة الخصم لإرادتنا) ولكنها تبرمج لجولة جديدة من الصراع، هي أشد هولاً وأعظم نكراً، ومع ذلك يتدافع البشر الى مذبحها كالمسحورين.

والحرب تقوم على إلغاء المباردة البشرية، والاستقلال الفردي، وكل ضروب الوعي والحرية والارادة، محولة قطيع الأفراد، تحت هلوسة جماعية، الى كتلة لحمية منضدة، على شكل مطرقة، جاهزة للهرس والسحق، تعمل بقوانين الفيزياء، استلب منها آخر شعاع من العقل، تطيع بدون تفكير، وتقتل بدون تردد، من تعرف ولاتعرف، إطاعة للأوامر، تحت مقولة (نفذ ثم اعترض).

أنا عملت في الجراحة مايزيد عن ربع قرن، ندخل قاعات العمليات أحياناً، لاصلاح عطب في البدن، في ظلمات الليل، من إصابة طائشة، اخترقت شرياناً هاماً، على موعد مع عملية، في دماء هي حتى الصباح ؟

الحرب ليست عملاً عفوياً طائشاً لاإرادياً، بل يدخلها الانسان بكامل وعيه، يخطط لها ويبرمج، يستعد لها وينفق، ثم يدخلها فيمارس القتل، في صورة جنون، يمارسها بشر خارج المصحات العقلية.

طوَّر (فرتز هابر) الكيميائي الألماني في ظروف الحرب العالمية الأولى ثلاث أفكار: استخراج البروتين من نشادر الهواء وأملاح الذهب من ماء البحر، ولكن أهمها كانت صناعة الغازات السامة؛ فهو أبوها.

وخرج بنفسه يراقب تطبيقها الميداني، في سحب الموت الصفراء من الكلور وغاز الخردل تزحف فوق خنادق الجنود إلى حلوقهم فيختنقون، وعيونهم فيعمون، وأعصابهم فيشلون.

في نفس الفترة خرجت داعية سلام مميزة هي (بيرتا فون سوتنر) فمُنعت من الخطابة، وفي بيتها حجرت، وحصل ماتوقعت، فجنرالات الحرب الذين توقعوا للحرب أن تنتهي في خمسة أسابيع على أبعد تقدير استمرت خمس سنوات..

ملأت قبور الأرض بملايين الشباب ، وفي معركة السوم فقط ، خلال ستة أشهر، مات (1250000) مليون ومائتين وخمسين ألفاً بين بريطاني وفرنسي وألماني حصدت الرشاشات الألمانية في أحدى الوجبات الدسمة، في مدى 12 ساعة، 56 ألفاً من خيرة أبناء بريطانيا، انتقاهم الجنرال (كيتشنر) على عينه، ولم يكونوا من أبناء المستعمرات.

خنادق الحرب العالمية الأولى عام 1916 م كررها الايرانيون والعراقيون، بعد سبعين سنة، في معارك كربلاء والقادسية، في ثماني سنوات عجاف، دامت أطول من الحرب العالمية الثانية، بكلفة فاقت 400 مليار دولار، وبقرابين بشرية وصلت المليون.

منذ مطلع التاريخ نشبت الحرب كخطأ كرموسومي في تركيب الحضارة، كما نشأ نظام العبودية، كإفراز جانبي من مرض الحرب، وتمت السيطرة الذكورية في توجيه المجتمع، واعتُمدت الثكنة لتدريب الذكور، أن يموتوا في ساحات القتال، وعسَّكر المجتمع في كل شيء، في إفراز صور لاتنتهي من العنف، وتغليف المجتمع بثقافة القسوة، وتمجيد ثقافة البطولة والفتوحات.

قفزت الحياة الانسانية بعد الثورة الزراعية، من فوضى الغابة، إلى بناء مؤسسة الدولة كخيار أفضل، فمعها أُطعم الانسان من جوع، وآمن من خوف.

الدولة تحتكر العنف لنفسها، مقابل منح الأفراد الأمن داخلها، ولكن دخول الانسان مرحلة الدولة كانت ورطة كبيرة، فمع ولادة الدولة تولد تلقائياً مرضان خطيران:

برمجة الحرب مع مربعات الدول الأخرى ، وممارسة الطغيان والتأله الداخلي. الحرب هي الظاهرة المرافقة لولادة الدول، فهي الصراع المسلح بين الدول وحين تفكك الدول.

والطغيان الداخلي يفسر لنا جانباً، من رسالة الانبياء عليهم السلام، وحركتهم في التاريخ، لتحديد جرعة عنف الدولة، في إطار توفير الأمن للأفراد، بدون وثنية الانظمة، وتأليه الاشخاص وولادة العائلات الاقطاعية المسلحة.

دعوة الأنبياء تمحورت حول استخدام آلية الحوار للاقناع بالدخول الى الضمير، مقابل دعوة الطغاة الى استخدام آلة الحرب للاكراه.

كانت الحرب فيما مضى تؤدي دورها كمؤسسة، إلى أن أصبحت كائناً خرافياً، كما لو رأينا انساناً، بطول 200 متر، ووزن 400 طن، يدب في احد أزقة المدينة، مثل قصص جوليفر ؟

إن مؤسسة الحرب ماتت، على الرغم من اختلاجات نزعها الأخير في مناطق المتخلفين في العالم، كما يحدث لأي عضو يضمر عندما لايمارس وظيفته، ومناظرها أصبحت مقززة تدعو للغثيان، أكثر من التصفيق والحماس وزغردة النساء، وتصعد اليوم أمم بدون أي سلاح وحروب تحرير..

كما في اليابان وألمانيا، وتنهار أمم تملك كل السلاح بدون أي هجوم خارجي، مثل الاتحاد السوفيتي، ولكن عالم الكبار يريدنا أن نبقى لأطول فترة، مخدرين تحت أثر سحر ملك الجان.

https://anbaaexpress.ma/q5ltj

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى