عبدالله فضول
التدين، كما يُقال، هو التطبيق العملي للدين، وهو مرآة تعكس فهم الإنسان للدين وتصوراته عنه. لكنه ليس انعكاسًا جامدًا أو مطلقًا؛ بل هو محكوم بالفهم الذاتي الذي يتأثر بالثقافة، والتربية، والسياقات الاجتماعية.
فكما أن الدين هو المنظومة التي تحمل التعاليم والأسس، فإن التدين هو التجسيد الحي لهذه التعاليم على أرض الواقع.
وبما أن الفهم يختلف من شخص لآخر، فإن التدين يأتي بصور شتى، تتباين في شدتها وتأويلها. فهناك من ينظر إليه بروح متسامحة تستوعب التنوع، وهناك من يضفي عليه صبغة صارمة لا تقبل النقاش وهكذا..
وتاريخيًا، كان التدين يتشكل وفق معطيات الواقع، يتحرك بين الاجتهاد والتقليد، بين الانفتاح والانغلاق، وبين روح الدين ونصوصه الجامدة.وارتبطت الأحكام الفقهية، على سبيل المثال، بالسياقات الاقتصادية السائدة في ذلك الزمن، مثل تحريم بعض أشكال الربا الذي كان وسيلة لاستغلال الفقراء في مجتمعاتٍ تعتمد على المعاملات المالية المباشرة.
لكن مع تغير الأنظمة الاقتصادية الحديثة، أصبح هناك أدوات مالية حديثة تستدعي إعادة النظر في هذه الأحكام وفق فهمٍ يراعي طبيعة الاقتصاد الجديد، وليس وفق القوالب الجامدة التي نشأت في زمن مختلف.
ولكن حين يصبح التدين دينًا، أي حين تتحول هذه التصورات الفردية إلى منظومة صارمة تُفرض وكأنها الحقيقة المطلقة، فهنا تكمن الخطورة. يصبح التدين بذلك أداةً لتشكيل واقع جديد لا يُحاكم وفق النصوص الأصلية، بل وفق تصورات وأعراف تراكمت عبر الزمن حتى باتت تُعامل كأنها جزء لا يتجزأ من الدين نفسه.
في هذه الحالة، يُستبعد التساؤل وإعادة النظر، ويفقد الدين جوهره كمجال للبحث الروحي والتفاعل الإنساني، ليصبح سلاحًا للمصادرة والإقصاء بدلًا من فضاء للفهم والتسامح.
وهذا يتجلى حين تتحول الأعراف الاجتماعية التي صاحبت النصوص إلى قواعد غير قابلة للنقاش، فتُفرض قيودٌ كانت نابعة من سياقات تاريخية محددة وكأنها تشريعات دينية ملزمة في كل زمان ومكان، مثل القوانين التي كانت تضبط دور المرأة في المجتمع ضمن أنظمة اجتماعية قديمة، ثم تم التعامل معها لاحقًا على أنها نصوص ثابتة غير قابلة للتغيير، رغم أن جوهر الدين نفسه يؤكد على العدل والمساواة دون إخضاعه لإطار اجتماعي جامد.
والحقيقة أن تعدد الحركات الدينية هو في جوهره تعدد في التأويلات، حيث تسعى كل حركة إلى تقديم تصورها الخاص باعتباره التفسير الأصح.
فكل حركة تعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة وترى في منهجها النموذج الأمثل، مما يدفعها إلى ترسيخ أفكارها بشكل يرفض التعددية.
وهذا يسمح بظهور توجهات متباينة، بعضها يعزز التفاعل والانفتاح، بينما يتجه بعضها الآخر نحو التشدد والانغلاق. وهكذا، نجد أنفسنا أمام حالة من الفوضى الدينية، حيث تتصاعد النزاعات الفكرية بين الأطراف المختلفة، مما يؤجج الانقسامات ويؤدي إلى صراعات تتجاوز الإطار الفكري إلى مستويات أكثر تعقيدًا.
وهنا يُطرح التساؤل: كيف يمكن الوصول إلى الفهم الصحيح؟ بأي معيار يمكن قياس ذلك؟ لا يكون السبيل إلى الفهم الصحيح عبر التسليم المطلق لأي تفسير، بل عبر قراءة الدين في سياقه التاريخي والإنساني، مع وعي نقدي لا يغفل عن تعددية الفهم.
فلا يمكن التعامل مع النصوص الدينية وكأنها جاءت في فراغ، بل لا بد من فهمها ضمن الظروف الزمنية والثقافية التي نشأت فيها، واستيعاب التفاعل الذي حصل بين هذه النصوص والواقع الاجتماعي والسياسي لذلك الزمن.
فحين ننظر إلى الأحكام التي كانت تضبط المعاملات التجارية، لا يمكن فصلها عن طبيعة الاقتصاد الذي ساد حينها، تمامًا كما لا يمكن اعتبار العادات والتقاليد الاجتماعية التي صاحبت النصوص جزءًا من جوهر الدين، بل هي انعكاسات زمنية قد لا تكون صالحة لكل عصر.
أما الوعي النقدي، فهو القدرة على التمييز بين المضمون الديني ومحيطه التاريخي، والتفرقة بين القيم الجوهرية التي تمثل مقاصد الدين الكبرى، وبين الأحكام التي تشكلت وفق ظرف معين قد لا يكون صالحًا لكل عصر.
فعلى سبيل المثال، عند التعامل مع النصوص التي تتناول دور المرأة في المجتمع، لا بد من التفريق بين ما جاء ضمن تعاليم الدين ذاتها، وبين الأعراف التي كانت سائدة في ذلك الزمن.
إذ نجد أن هناك تفسيرات تُبرر القيود المفروضة على مشاركة المرأة في بعض المجالات استنادًا إلى السياقات الاجتماعية السائدة حينها، لكنها قد لا تكون من صلب التعاليم الدينية نفسها.
فالوعي النقدي هنا يقتضي النظر إلى مقاصد الدين الكبرى، التي تقوم على العدل والكرامة والمساواة، بعيدًا عن التقاليد التي ارتبطت بفترات معينة ولم تعد ملائمة لواقع اليوم.
بهذا المنهج، يمكن للدين أن يحافظ على جوهره كفضاء للتفاعل الإنساني، وليس منظومة مغلقة يتم تحنيطها داخل تفسيرات جامدة تفرض قوالب ثابتة على كل عصر.
* كاتب وقاص للقصة القصيرة جدا