مقدمة
تعيش القارة الإفريقية مرحلة مفصلية من تاريخها، تتقاطع فيها التحديات التنموية مع التحولات الجيوسياسية العالمية، في ظل نظام دولي يعاد تشكيله على أساس التموقعات الجغرافية الحيوية والمصالح الاقتصادية المعولمة، ويبرز في هذا السياق المحيط الأطلسي كواجهة بحرية استراتيجية لم تحظ بالاهتمام الكافي في السياسات العمومية للدول الإفريقية المطلة عليه، ما جعل استغلاله الاقتصادي محدودا ومجزءا، رغم توفره على إمكانات طبيعية وبشرية هائلة يمكن أن تتحول إلى رافعة حقيقية للتنمية والتكامل، وهو ما يشكل خلفية منطقية لطرح مبادرة شاملة تعيد رسم الأولويات وتوظف هذه الموارد ضمن رؤية جماعية متعددة الأطراف..
وتأتي المبادرة الأطلسية التي أعلنها جلالة الملك محمد السادس كتصور استراتيجي جديد يسعى إلى تحويل المجال الأطلسي الإفريقي من مجرد حدود جغرافية بحرية إلى مجال متكامل جيوسياسيا واقتصاديا، عبر إرساء روابط جديدة بين الدول المطلة على هذا الفضاء وتجاوز منطق التعامل الثنائي المحدود، بحيث تقوم هذه المبادرة على إعادة توزيع الأدوار والوظائف الجيوستراتيجية، من خلال تعزيز البنيات التحتية البحرية، ودمج دول الساحل غير الساحلية في دينامية اقتصادية بحرية قارية، اضافة إلى خلق شبكات تكامل اقتصادي تتجاوز الحواجز السياسية والتاريخية بين دول المنطقة.
وتعكس هذه المبادرة المغربية وعيا عميقا بتحول المركز الاستراتيجي للنفوذ الدولي نحو المحيطات، خاصة في ظل احتدام التنافس بين القوى الكبرى على تأمين الموارد والتموقع في الممرات البحرية، ما يجعل المحيط الأطلسي ليس فقط بوابة للتبادل التجاري، بل كذلك مجالا للحضور الجيوسياسي والمناورة الاستراتيجية، إذ إن المغرب من خلال اقتراحه هذا لا يسعى فقط إلى تحفيز التعاون الإقليمي، بل أيضا إلى ترسيخ موقعه كفاعل استباقي قادر على قيادة مبادرات ذات بعد قاري تستجيب لحاجيات التنمية والأمن والاستقرار في إفريقيا الغربية والساحل.
وإذا كانت بعض التجارب السابقة للتكامل الإفريقي قد أخفقت بسبب غياب إرادة سياسية منسقة وضعف البنيات الأساسية وتضارب المصالح، فإن ما يميز المبادرة الأطلسية المغربية هو ارتكازها على أسس عملية تتجسد في جاهزية البنيات المينائية والقدرة على الربط اللوجستي، فضلا عن توفر المغرب على نموذج شراكات جنوب–جنوب ناجح يمكن تعميمه، وهو ما يمنح المبادرة قابلية أكبر للتطبيق العملي، ويجعل منها أرضية مناسبة لبناء تحالف أطلسي إفريقي مرن، قادر على التفاعل مع التحولات العالمية واستيعاب التحديات الإقليمية.
من جهة أخرى، يندرج هذا الطرح ضمن رؤية تنموية بعيدة المدى تستهدف تأهيل الاقتصاديات الأطلسية الإفريقية لإدماجها في سلاسل القيمة العالمية، عبر تحسين شروط الإنتاج المحلي، ودعم التبادل التجاري البيني، وتحقيق تنويع اقتصادي مستدام يراعي خصوصيات كل دولة، وفي هذا السياق، تسعى المبادرة إلى تجاوز معضلة الاعتماد الأحادي على المواد الخام، من خلال تحفيز الاستثمار المشترك، وتعزيز التكامل الصناعي والزراعي والخدماتي، وهو ما يفتح أمام الدول الإفريقية إمكانيات غير مسبوقة لتقليص الفجوة التنموية مع بقية مناطق العالم.
كما ينبغي التأكيد على أن المبادرة لا تقتصر على الأبعاد الاقتصادية الصرفة، بل تنفتح كذلك على رهانات الأمن البحري، والهجرة، والتغيرات المناخية، والربط الطاقي، وهي كلها قضايا تتطلب مقاربات جماعية لا يمكن لأي دولة معالجتها بمفردها، وهو ما يمنح هذه المبادرة طابعا شموليا واستباقيا يجعلها مؤهلة لتكون إطارا إقليميا جديدا للتعاون متعدد الأبعاد، يعيد التوازن للعلاقات الإفريقية من داخل القارة، ويقلص من التبعية للفاعلين الخارجيين، ويفتح المجال لبروز قوة إفريقية أطلسية مندمجة وذات سيادة في قراراتها التنموية والاستراتيجية.
الفصل الأول: السياق الاستراتيجي للمبادرة الأطلسية المغربية
يشهد النظام الدولي في المرحلة الراهنة تحولات بنيوية عميقة تعيد تشكيل خرائط النفوذ والتحالفات وفق منطق جغرافي اقتصادي متغير، حيث لم تعد معايير القوة تقتصر على التفوق العسكري أو السيطرة السياسية، بل أصبحت مشروطة بالقدرة على الولوج إلى الممرات الحيوية وتأمين الموارد الحيوية من طاقة، معادن ومواد غذائية، وفي هذا السياق بات المحيط الأطلسي يمثل واجهة استراتيجية جديدة، لا فقط للتجارة العابرة للقارات، بل أيضا لتكريس تموقع جيوسياسي ذي بعد متعدد المستويات، وهو ما يفسر تصاعد اهتمام القوى الكبرى بإعادة توزيع مواقعها في هذا الفضاء البحري.
ويندرج طرح المغرب لمبادرته الأطلسية باعتباره تجاوبا استباقيا مع هذه التحولات، من منطلق موقعه الجغرافي المتميز كبوابة بين إفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية ، وكرائد في التعاون جنوب–جنوب، إذ لا يندرج هذا المشروع في خانة الردود الظرفية، بل في إطار إعادة هندسة العلاقات الإقليمية في إفريقيا الغربية والساحل، على نحو يراهن على دمج الدول غير الساحلية في الفضاء البحري الأطلسي، وبناء شبكات متكاملة للبنيات التحتية والطاقة والتجارة، بما يعيد التوازن إلى المشهد الجيوسياسي الإفريقي من داخل القارة، ويحد من تبعيتها لتموقعات خارجية غير متحكم فيها.
1. تنويع الشراكات الاستراتيجية بين دول المبادرة
يشكل تنويع الشراكات أداة مركزية في تخفيف تبعية الدول الإفريقية للفاعلين التقليديين، خاصة أولئك الذين رسخوا لعلاقات اقتصادية غير متكافئة، إذ أن المبادرة الأطلسية تتيح إمكانية فتح فضاءات تعاون جديدة جنوب–جنوب، تتأسس على مبدأ الندية والمصالح المشتركة، من خلال بناء تكتلات بحرية وتجارية إقليمية تقوم على استغلال المؤهلات المحلية وتحفيز التبادلات المباشرة بين الدول الإفريقية، بعيدا عن وساطة الأسواق المهيمنة، مما يعيد رسم خريطة التفاعلات الاقتصادية وفق منطق الاندماج الداخلي، وليس عبر التصدير نحو الخارج فقط..
ويعتبر المغرب، ضمن هذا المسار، فاعلا قادرا على لعب دور الواجهة والضامن في آن واحد، نظرا لمكانته المتقدمة في الاتفاقيات التجارية الإفريقية، وتجربته في الربط الاقتصادي مع دول الساحل وغرب إفريقيا، مما يجعله مرشحا طبيعيا لقيادة مبادرة تعتمد على ربط شبكات إنتاجية بينية قائمة على القيمة المضافة، وليس على تصدير المواد الخام، وهو ما يساهم في خلق أقطاب صناعية عابرة للحدود تتيح التكامل بدل التنافس، وتمكن من خلق نسيج اقتصادي إقليمي مقاوم للصدمات الخارجية.
كما أن تنويع الشراكات يسمح بإعادة توزيع الاستثمار الأجنبي المباشر بطريقة أكثر توازنا، بحيث تمنح الأفضلية للقطاعات المنتجة والداعمة للتشغيل المحلي، مثل البنيات التحتية، الطاقة المتجددة، والصناعات التحويلية، وهو توجه يحفز نقل التكنولوجيا ويقلص من الفجوة التقنية التي تعاني منها أغلب الدول الساحلية الإفريقية، ما يفتح المجال لتجديد نماذج التنمية على أسس أكثر استقلالية واستدامة، تتجاوز منطق المساعدة الخارجي نحو بناء شراكات إنتاجية حقيقية.
تفتح المبادرة كذلك المجال أمام التعاون المؤسساتي المتعدد الأطراف، سواء على مستوى الحكومات أو الفاعلين الاقتصاديين والجهات المانحة، إذ يشكل هذا التعدد رافعة لبناء شبكات دبلوماسية اقتصادية مرنة، تستفيد منها الدول المنخرطة في تعزيز قدرتها التفاوضية داخل المنتظمات الدولية، كما أن الانخراط الجماعي في مشروع مشترك يعزز الثقة السياسية ويقلل من منسوب الصراعات الثنائية التي كانت تعيق أي مشروع اندماجي حقيقي في إفريقيا الغربية.
وينتظر أن تنتج هذه الدينامية شبكة من الاتفاقيات التجارية والضريبية والجمركية الجديدة، تقوم على تبسيط الإجراءات وتوحيد المرجعيات التنظيمية، مما يقلص من كلفة المبادلات ويعزز من جاذبية المنطقة الأطلسية للاستثمارات، خاصة أن عددا من الدول الساحلية تمتلك موارد واعدة غير مستغلة، وهو ما يجعل من الربط بين هذه الموارد والأسواق الإقليمية خطوة استراتيجية لبناء قوة اقتصادية بحرية متكاملة.
2. تعزيز الأمن البحري والطاقي
يشكل الأمن البحري أحد المداخل الحيوية لتحقيق استقرار التجارة البحرية وضمان سلاسة الإمدادات، وهو ما يكتسب أهمية قصوى في منطقة المحيط الأطلسي الإفريقي التي تعرف تهديدات متنامية مرتبطة بالقرصنة، والتهريب، والتلوث إذ إن انعدام تنسيق أمني بحري مشترك يحد من قدرات الدول على حماية سواحلها واستغلال ثرواتها البحرية، لذلك فإن المبادرة المغربية تأتي لتقترح آلية جماعية لرصد المخاطر وتعزيز القدرات العملياتية، من خلال تقاسم المعلومات، وتوحيد استراتيجيات المراقبة، وتكوين الموارد البشرية المتخصصة.
أما في الجانب الطاقي، فالمبادرة تسعى إلى خلق ممرات طاقية بحرية تضمن تنويع مصادر الاستيراد والتصدير، وربط الدول المنتجة بالأسواق الإقليمية والدولية بكلفة أقل وفعالية أكبر، وهو ما ينسجم مع التوجه العالمي نحو الطاقات النظيفة، ويفتح آفاقا واسعة أمام مشاريع الربط الكهربائي، وتطوير الهيدروجين الأخضر، حيث يشكل الساحل الأطلسي المغربي، إلى جانب موريتانيا والسنغال، فضاء واعدا لإنتاج الطاقات البديلة على نطاق واسع، وتصديرها نحو أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء.
كما يفتح هذا التصور المجال أمام خلق تحالفات طاقية مرنة تقوم على تبادل القدرات الإنتاجية والتخزينية واللوجستية، مع ما يعنيه ذلك من إعادة تموقع استراتيجي لدول المنطقة في سلاسل الإمداد العالمية، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية التي تعرفها بعض المناطق التقليدية المزودة للطاقة، مما يدفع القوى الكبرى للبحث عن بدائل آمنة ومستقرة في مناطق أخرى، وهو ما يضع الفضاء الأطلسي الإفريقي في صلب الاهتمام العالمي.
وتعكس هذه الأبعاد رؤية جديدة للأمن لا تقتصر على البعد العسكري، بل تشمل الأمن الغذائي والطاقي والمائي والبيئي، وهي كلها مرتكزات تبنى عليها التنمية المستدامة، وتمكن من بناء استراتيجيات وقائية تقلل من الهشاشة المؤسساتية والاقتصادية، خاصة لدى الدول غير الساحلية التي تفتقر إلى منفذ مباشر على البحر، والتي ستستفيد من فرص الربط الطاقي واللوجستي لتأمين احتياجاتها بأقل كلفة وأكبر فعالية.
تعزيز الأمن البحري والطاقي لا يمكن فصله عن تعزيز السيادة الاقتصادية، إذ أن التحكم في الموارد ومسارات نقلها وتوزيعها يشكل جوهر الاستقلال الاستراتيجي، وهو ما يجعل من المبادرة الأطلسية إطارا لبناء تحالف دفاعي اقتصادي إقليمي، يتجاوز منطق الحماية العسكرية نحو منطق تأمين التنمية كحق جماعي، وكشرط لضمان الاستقرار السياسي والمؤسساتي في المنطقة.
3. دعم مشاريع التكامل القاري في إفريقيا
تسعى المبادرة المغربية إلى الدفع بمشاريع التكامل الإفريقي من مستوى الخطاب إلى واقع عملي، عبر توظيف المنفذ الأطلسي كرافعة للربط بين الاقتصادات المحلية والأسواق الإقليمية، وتجاوز المعيقات التي ظلت تعرقل تفعيل اتفاقية التجارة الحرة القارية، سواء ما تعلق بالبنيات التحتية أو ضعف الاندماج القطاعي، إذ أن المحيط الأطلسي يشكل فضاء مثاليا لتجريب نماذج جديدة للتكامل، تقوم على ربط الموانئ بالمناطق اللوجستية الداخلية، وإنشاء ممرات اقتصادية تنموية تمتد من السواحل نحو العمق الإفريقي.
ويندرج دعم هذا التكامل من خلال إرساء منصات تصدير مشتركة، وتنسيق السياسات الصناعية والفلاحية والخدماتية بين الدول، مما يمكن من خلق سلاسل إنتاج مشتركة قادرة على تلبية الطلب الداخلي والتصدير نحو الخارج، وهو ما يسمح بتحقيق اقتصادات الحجم الكبير، ويدعم التنوع الاقتصادي، ويقلل من هشاشة الاقتصادات الإفريقية أمام تقلبات الأسواق العالمية، في أفق بناء قوة تفاوضية جماعية أكثر تماسكا داخل المنظمات المالية والتجارية الدولية.
وتعزز هذه الرؤية الدور الجديد للمغرب كقاطرة للتنمية القارية، ليس فقط عبر التمويل أو التعاون التقني، بل عبر تمكين الدول من الاستفادة من بنياته التحتية المتقدمة، مثل ميناء الداخلة الاطلسي، وخطوط الربط السككي، والشبكات الطاقية، بحيث تتحول هذه البنيات من أدوات وطنية إلى منصات إقليمية، ما يعني الانتقال من منطق الوطنية الضيقة إلى منطق المنافع المشتركة، وهو تحول نوعي في فلسفة التعاون الإفريقي.
كما أن دعم التكامل القاري يسهم في تقليص الفوارق التنموية بين دول الساحل والدول الساحلية، إذ أن تمكين الأولى من الولوج إلى الفضاء الأطلسي يمكن أن يعيد رسم خرائط الاستثمار والتمويل والتجارة في المنطقة، ويفتح أمامها فرصا غير مسبوقة لتثمين مواردها وربطها بمراكز التحويل والتصدير، مما يضع حدا لعزلتها الجغرافية، ويدمجها ضمن دينامية تنموية أشمل، وأكثر عدالة.
وتعد هذه الخطوة تأكيدا على أن التكامل الإفريقي لا يجب أن يختزل في المؤسسات والقرارات الرسمية، بل ينبغي أن يبنى على مشاريع واقعية ومربحة، تقنع الفاعلين الاقتصاديين بجدواها، وتحفز القطاع الخاص على الانخراط فيها، وهو ما تسعى إليه المبادرة الأطلسية المغربية عبر جعل الربط المادي والاقتصادي ركيزة للتكامل القاري، وليس مجرد شعار سياسي.
الفصل الثاني: الإمكانيات الاقتصادية للدول الأطلسية الإفريقية
تشكل الدول الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي مجالا استراتيجيا غنيا بالموارد الطبيعية والبشرية التي تؤهلها للاضطلاع بدور محوري في الاقتصاد القاري والعالمي، وتتنوع هذه الموارد بين احتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي والنفط، وثروات معدنية هائلة تشمل الحديد والبوكسيت والفوسفات، إضافة إلى الإمكانات الهائلة في مجالات الطاقات المتجددة مثل الطاقة الشمسية والريحية، علاوة على توفر شواطئ ممتدة وغنية بالثروات البحرية، وهو ما يضع هذه الدول في موقع جيو-اقتصادي متميز من حيث الإمكانات التنموية والاستثمارية، سواء في إطار شراكات جنوب-جنوب أو في علاقاتها مع القوى الدولية الصاعدة.
غير أن المفارقة البارزة تكمن في ضعف الاستغلال الممنهج لهذه الإمكانيات، حيث تعاني هذه الدول من نقص البنيات التحتية، وتشتت السياسات الاقتصادية، وغياب آليات فعالة للتكامل الإقليمي، كما أن التبادل التجاري فيما بينها يبقى محدودا وغير متنوع، مما يحد من قدرة الاقتصادات الأطلسية الإفريقية على التموقع ضمن سلاسل القيمة العالمية، وهو ما يجعل المبادرة المغربية لإرساء إطار أطلسي جديد بمثابة فرصة استراتيجية لإعادة توجيه بوصلة التعاون بين هذه الدول نحو تكامل وظيفي وتنموي يرتكز على تعبئة الإمكانيات المشتركة وتعزيز التفاهمات الجيوسياسية.
1. الثروات الطبيعية: رافعة غير مفعّلة للتنمية
تزخر الدول الإفريقية الأطلسية بثروات طبيعية ضخمة تشكل ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، إذ تمتلك نيجيريا على سبيل المثال احتياطيات مؤكدة من الغاز تقدر بـ206.53 تريليون قدم مكعب، ما يمثل حوالي 33% من إجمالي احتياطيات الغاز في إفريقيا، وتضعها في المرتبة التاسعة عالميا ، في حين تبرز السنغال وموريتانيا كمجالات واعدة في هذا المجال نتيجة الاكتشافات الحديثة، غير أن استغلال هذه الموارد يواجه تحديات مؤسساتية وتقنية، تعرقل تحويلها إلى قيمة مضافة لصالح الاقتصادات الوطنية والإقليمية، كما تطرح التبعية للشركات متعددة الجنسيات إشكالية توزيع العائدات بشكل عادل.
تشكل المعادن بدورها مكونا رئيسيا في الرأسمال الطبيعي للدول الأطلسية الإفريقية، إذ تعتبر غينيا من أكبر مصدري البوكسيت حيث تمتلك احتياطيات تقدر بـ7.4 مليار طن متري، ما يعادل حوالي 24% من الاحتياطيات العالمية، وتعد ثالث أكبر منتج عالمي بعد أستراليا والصين ، ويسيطر المغرب على 75 في المئة من الاحتياطات العالمية للفوسفاط، وتتوفر سيراليون على احتياطات ضخمة من التيتانيوم والذهب، بالإضافة الى الحديد، حيث يعتبر منجم تونكوليلي من أكبر مناجم خام الحديد في العالم، حيث يحتوي على احتياطيات تقدر بـ12.8 مليار طن من الخام بنسبة تركيز 64%، فيما تضم موريتانيا احتياطات كبيرة من الحديد، منها منجم كاوات الذي يضم حوالي 1.2 مليار طن من الخام بنسبة تركيز 44%، ورغم ذلك، يظل النشاط المنجمي محدود الأثر على الاقتصاد المحلي، بسبب ضعف التصنيع وغياب سلاسل القيمة المضافة، مما يفرض التفكير في سياسات جديدة للاستغلال السيادي والرشيد لهذه الموارد.
أما فيما يخص الثروات البحرية، فتعد الشواطئ الأطلسية مصدرا غنيا بالأسماك والأحياء البحرية، إلا أن الاستغلال العشوائي والصيد الجائر وتفاقم الصيد غير القانوني يقوض استدامة هذا المورد الاستراتيجي، ويؤدي إلى خسائر اقتصادية فادحة للدول المعنية، في ظل غياب آليات رقابة فعالة وتعاون إقليمي منسق، وهو ما يجعل من الضروري إدماج البعد البيئي ضمن الاستراتيجيات الاقتصادية.
من جهة أخرى، تمثل الإمكانات السياحية في هذه الدول فرصة حقيقية لتنويع الاقتصاد، حيث تتوفر على مناظر طبيعية متنوعة، وشواطئ جذابة، وتراث ثقافي غني، ومع ذلك، لم يتم بعد تهيئة البنيات الأساسية الضرورية لتطوير السياحة المستدامة، مما يفوّت على هذه الدول فرص خلق مناصب شغل وتحقيق دخل قار من هذا القطاع الحيوي، الذي يمكن أن يشكل إحدى ركائز التحول الهيكلي الاقتصادي.
إضافة إلى ذلك، تتيح الطاقات المتجددة مجالا واعدا للاستثمار، خصوصا أن دول الساحل الأطلسي تتمتع بإشعاع شمسي ورياح قوية طيلة السنة، وهو ما يفتح المجال أمام انتقال طاقي يعزز السيادة الطاقية ويقلص التبعية للمصادر التقليدية، لكن غياب التمويلات الكافية والتقنيات الحديثة يجعل هذه الإمكانات غير مستثمرة بما يلائم التحولات العالمية في مجال الطاقة.
2. الموقع الجيو-استراتيجي: حلقة وصل بين المحاور الكبرى
يمنح الساحل الأطلسي الإفريقي موقعا استراتيجيا استثنائيا بين المحيطين الأطلسي والمتوسط، مما يجعله ممرا طبيعيا لحركة التجارة الدولية بين أمريكا وأوروبا وإفريقيا، ويضعه في قلب ديناميات النقل البحري العالمي، إلا أن ضعف التجهيزات المينائية، وغياب الربط اللوجستي الداخلي، يحول دون تموقع هذه الدول كعقدة وصل فعالة داخل سلاسل التوريد العالمية، مما يستدعي تحفيز الاستثمار في الموانئ والبنيات التحتية العابرة للحدود.
كما أن القرب الجغرافي من الأسواق الأوروبية يشكل فرصة لتعزيز الصادرات وتحفيز الاستثمارات الأجنبية، لكن هذا القرب لا ينعكس بفعالية على العلاقات الاقتصادية، بسبب استمرار العقبات الجمركية والتقنية وضعف القدرات التفاوضية الجماعية للدول الإفريقية الأطلسية، وهو ما يستدعي تطوير منصات تكامل اقتصادية تعزز الموقف التفاوضي الإقليمي.
من زاوية جيوسياسية، يشكل الساحل الأطلسي امتدادا طبيعيا لمنطقة الساحل والصحراء، مما يمنحه أهمية كبرى في استراتيجيات الأمن والدفاع، لاسيما في ظل تصاعد التهديدات العابرة للحدود من قبيل الإرهاب والتهريب والهجرة غير النظامية، الأمر الذي يجعل من الأمن البحري أولوية للتعاون الإقليمي، ويسلط الضوء على الحاجة إلى استراتيجية جماعية لمراقبة السواحل وتعزيز قدرات الردع.
بالإضافة إلى ذلك، تمنح التحولات الجيوسياسية العالمية، لاسيما التنافس بين القوى الكبرى، فرصة استراتيجية لهذه الدول لتقوية موقعها التفاوضي واستقطاب الاستثمارات، شريطة تبني مواقف موحدة، وتفعيل دبلوماسية اقتصادية قارية فاعلة، تكون قادرة على حماية المصالح المشتركة في ظل عالم متعدد الأقطاب.
الديناميات السكانية والأسواق المحلية: قوة كامنة للنمو
تشكل الديناميات الديمغرافية عاملا حاسما في مستقبل الفضاء الأطلسي الإفريقي، حيث تضم الدول الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي، وعددها 23 دولة تمتد من المغرب شمالا إلى ناميبيا و جنوب افريقيا جنوبا، بكتلة سكانية تقدر بأزيد من 700 مليون نسمة (وفقا لتقديرات عام 2024)، أي ما يعادل قرابة 51% من إجمالي سكان القارة الإفريقية.
ويتميز هذا التكتل السكاني بارتفاع نسبة الشباب، حيث تقل أعمار أكثر من 60% منهم عن 25 سنة، ما يوفر احتياطيا استراتيجيا من اليد العاملة وفرصا كبيرة في مجالات الابتكار وريادة الأعمال إذا ما تم الاستثمار في التكوين والتعليم بشكل منهجي، غير أن ضعف أنظمة التعليم، والنقص في برامج التكوين المهني الموجهة لحاجيات السوق، يحد من قدرة هذه الدول على تحويل رأس المال البشري إلى رافعة اقتصادية فعلية.
بالتوازي مع ذلك، يعرف الفضاء الأطلسي الإفريقي تسارعا كبيرا في وتيرة التمدن، إذ أصبحت المدن الكبرى مثل لاغوس، داكار، أبيدجان، أكرا، ودار السلام فضاءات استهلاك نشيطة وأسواقا واعدة للخدمات والمنتجات، إلا أن هذا التحول الحضري يطرح في المقابل تحديات على مستوى السكن والنقل والتخطيط العمراني.
كما أن الارتفاع المضطرد في معدلات الاستهلاك داخل هذه الدول، والذي تدعمه طبقة متوسطة صاعدة في بعض البلدان، يمثل فرصة سانحة لبناء أسواق داخلية قوية ومستقرة، قادرة على دعم الصناعات الوطنية وتقليص التبعية للاستيراد، إلا أن ضعف الاندماج المالي وغياب الشمول البنكي، حيث إن قرابة 60% من السكان لا يتعاملون مع النظام البنكي الرسمي، يمثل عائقا أمام تطوير التجارة الحديثة والرقمية، ويحد من إمكانية تحفيز الطلب الداخلي المهيكل.
أما تنوع الثقافات واللغات في هذه الدول، فهو يشكل مصدر ثراء حضاري كبير يمكن أن يستثمر في تطوير الصناعات الإبداعية والسياحة الثقافية، وهما قطاعان يشهدان نموا متسارعا على الصعيد العالمي، بشرط توفير البنيات التحتية الثقافية وتعزيز السياسات العمومية الداعمة للمحتوى المحلي، وبالنظر إلى ضعف المبادلات التجارية بين الدول الأطلسية الإفريقية، حيث لا تتعدى التجارة البينية 13% من إجمالي التبادلات، تبدو الحاجة ملحة لتعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي عبر تيسير التنقلات، وتبسيط المساطر الجمركية، وتطوير البنيات التحتية المشتركة، بما يفضي إلى خلق سوق أطلسية داخلية فعالة وقادرة على الصمود أمام تقلبات الأسواق العالمية.
الفصل الثالث: البنيات المينائية والربط البحري – دعامة استراتيجية للتكامل الأطلسي
تشكل البنيات المينائية الأطلسية عاملا حاسما في دفع مسار التكامل الاقتصادي بين الدول الإفريقية المطلة على الأطلسي، فهي ليست مجرد منصات عبور للبضائع، بل أدوات استراتيجية تعزز التدفقات التجارية، وتربط سلاسل القيمة الإقليمية، وترفع من تنافسية الاقتصادات المحلية، كما تمثل واجهات للتفاعل مع الأسواق العالمية، مما يمنحها وزنا متزايدا في خريطة الاقتصاد والجغرافيا السياسية العالمية، وفي هذا السياق، يكتسي الاستثمار في الربط البحري أهمية استثنائية، حيث يوفّر حلولا لتجاوز اختناقات البنية التحتية البرية، ويعزز من التوزيع المتوازن للثروات والفرص على امتداد الساحل الأطلسي.
يتزامن هذا الحراك مع تحولات جيوسياسية عميقة، تتعلق بتزايد أهمية الطرق البحرية في تأمين سلاسل الإمداد العالمية، وتعاظم التنافس بين القوى الكبرى على النفوذ البحري، وفي هذا الإطار، يبرز الربط بين الموانئ الأطلسية كخيار استراتيجي يمنح الدول الإفريقية قدرة أكبر على الصمود أمام الصدمات الخارجية، ويعزز من موقعها التفاوضي، كما يتيح تحفيز القطاعات الإنتاجية، واستقطاب الاستثمارات، وتوسيع الأسواق، بما يساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ويعيد رسم موازين القوى الإقليمية لصالح القارة الإفريقية.
1. الموانئ المغربية: طنجة المتوسط والداخلة الأطلسي كمحركين للتكامل الإقليمي
يشكل ميناء طنجة المتوسط وميناء الداخلة الأطلسي مركز الثقل في الاستراتيجية المغربية للربط البحري، إذ يجمع ميناء طنجة المتوسط بين موقع جغرافي مفصلي وقدرة استيعابية هائلة وصلت الى ازيد من 10ملايين حاوية سنويا، تجعل منه أكبر ميناء في إفريقيا، ومحورا لتوزيع البضائع نحو أوروبا والأمريكتين وإفريقيا، كما أتاح تنويع الاقتصاد المغربي، تعزيز موقعه في سلاسل القيمة العالمية، لا سيما في مجالات الصناعة والخدمات اللوجستيكية، وهو ما انعكس إيجابا على معدلات النمو والتشغيل.
أما ميناء الداخلة الأطلسي، فيأتي كمشروع استراتيجي لتعزيز حضور المغرب في أسواق إفريقيا جنوب الصحراء، إذ يرتكز على تطوير بنية تحتية مينائية وصناعية قادرة على استيعاب التدفقات التجارية المتزايدة، وتسهيل تصدير المنتجات الفلاحية والبحرية والطاقة، مما يعزز من القدرة التنافسية للأقاليم الجنوبية، ويرسّخ التنمية المحلية، ويسهم في تحقيق توازن جهوي مستدام.
اقتصاديا، تلعب الموانئ المغربية دورا حاسما في تحسين كفاءة سلسلة التوريد الوطنية، وتقليص تكاليف النقل، وتحفيز استثمارات الصناعات التصديرية، مما رفع من الصادرات الوطنية وساهم في تخفيف الضغط على البنى التحتية في المراكز الحضرية الكبرى.
كما تعزز موقع المغرب كمركز إقليمي للتجارة والخدمات، وعلى المستوى الجيوسياسي، ومنح التطوير المينائي المغرب مكانة متقدمة في التفاعلات الإقليمية، وسمح له بتوسيع شراكاته الاقتصادية، سواء مع الاتحاد الأوروبي أو الصين أو بلدان إفريقيا الغربية، كما أتاح له تعزيز موقعه ضمن مبادرات التعاون جنوب-جنوب، والمشاركة بفعالية في إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية الإقليمية.
2. محور نواكشوط ونواذيبو: موريتانيا كجسر بين شمال وغرب إفريقيا
تلعب الموانئ الموريتانية، وفي مقدمتها ميناء نواكشوط وميناء نواذيبو، دورا محوريا في الربط بين المغرب العربي وغرب إفريقيا، إذ يعتبر ميناء نواكشوط نافذة رئيسية لتصدير الحديد والمعادن والمنتجات البحرية، بينما يمثّل ميناء نواذيبو قاعدة مهمة للصيد البحري وصناعات التحويل، كما يعزز هذا المحور القدرة التنافسية لموريتانيا، ويوفر قاعدة لوجستيكية متقدمة تخدم تدفقات التجارة الإقليمية.
تسعى السلطات الموريتانية إلى تحديث هذه الموانئ، من خلال توسعة الأرصفة، وتطوير مناطق لوجستيكية وصناعية، وربطها بشبكات النقل البري والسككي، بما يسمح بزيادة حجم البضائع المعالجة، وتحسين تنافسية السلع الوطنية، وتعزيز اندماج موريتانيا في الاقتصاد الإقليمي، وجذب استثمارات جديدة في قطاعات واعدة مثل الطاقة والمعادن.
على الصعيد الاقتصادي، يوفر هذا التطوير فرصا لتنويع الاقتصاد الموريتاني، الذي ظل تاريخيا معتمدا على الموارد الاستخراجية، كما يعزز من القدرة التصديرية للمنتجات المحلية، ويوسع من قاعدة الاقتصاد الوطني، بما يساهم في خلق فرص عمل وتحقيق نمو اقتصادي مستدام، ويرفع من مستويات الرفاه الاجتماعي، أما من الناحية الجيوسياسية، فيمنح هذا المحور موريتانيا دورا محوريا كحلقة وصل بين بلدان المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء، ويعزز من قدرتها على الانخراط في المبادرات الإقليمية الكبرى، مثل المبادرة الأطلسية، ويقوي موقعها التفاوضي إزاء الشركاء الأوروبيين والصينيين.
3. محور داكار – لاغوس – الموانئ جنوبا حتى ناميبيا: العمود الفقري للتكامل الأطلسي
يمتد المحور البحري الأطلسي من داكار في السنغال، مرورا بلاغوس في نيجيريا، ليشمل موانئ أساسية في أنغولا مثل ميناء لواندا، وفي ناميبيا مثل ميناء والفيس باي، ما يجعله العمود الفقري للربط التجاري بين غرب وجنوب إفريقيا، إذ يعد ميناء داكار مركزا حيويا للربط مع أوروبا ووسط إفريقيا، بينما يشكل ميناء لاغوس القلب الاقتصادي لنيجيريا، وهو أكبر الموانئ غرب إفريقيا، فيما يكتسب ميناء لواندا أهمية متزايدة في تصدير النفط والغاز، ويعزز ميناء والفيس باي قدرة ناميبيا على لعب دور استراتيجي في التجارة الإقليمية.
وتخضع هذه الموانئ لبرامج تحديث واسعة النطاق، تشمل توسعة الأرصفة، وتحديث المعدات، وتطوير مناطق الخدمات اللوجستيكية، وتحسين الربط الداخلي بشبكات النقل البري والسككي، وهو ما يرفع من قدرتها الاستيعابية، ويقلّص من زمن مناولة الحاويات، ويحسن من مرونة سلاسل الإمداد الإقليمية، بما يعزز من تكاملها ضمن الشبكات العالمية.
اقتصاديا، يمثل هذا الامتداد البحري فرصة لتنويع الاقتصادات الوطنية، وتقليص الاعتماد على تصدير المواد الأولية، من خلال جذب الاستثمارات الصناعية، وتوسيع قطاع الخدمات اللوجستيكية، وتحفيز التجارة البينية الإفريقية، وهو ما يساهم في خلق قيمة مضافة محلية، وتحقيق معدلات نمو أعلى، وتقليص البطالة، وتعزيز الأمن الغذائي والطاقي.
جيوسياسيا، يمنح هذا المحور دول غرب وجنوب إفريقيا قوة تفاوضية أكبر في الساحة الدولية، ويعزز من دورها في المبادرات الإقليمية مثل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، بما يعزز من استقرارها السياسي والاجتماعي، كما تواجه هذه الموانئ تحديات متعلقة بإدارة النفايات الصناعية، والتلوث البحري، والضغط الحضري المتزايد، مما يتطلب إدماج مبادئ الاقتصاد الأخضر، وتطبيق معايير صارمة للحكامة البيئية، وتشجيع التحول الرقمي في إدارة العمليات المينائية، لضمان استدامة هذا التكامل الأطلسي على المدى الطويل.
الفصل الرابع: انفتاح استراتيجي على دول الساحل
يمثل الانفتاح على دول الساحل الإفريقي إحدى الدعامات الجوهرية للمبادرة الأطلسية التي يقودها المغرب، إذ أن هذه الدول، بحكم موقعها غير الساحلي، تعاني من إكراهات بنيوية في الولوج إلى الأسواق العالمية، وتواجه تحديات مزمنة تتعلق بالربط اللوجستي وتأمين سلاسل التوريد، مما يضعها في وضعية هشاشة اقتصادية وجيوسياسية مستمرة، وفي هذا السياق، تأتي المبادرة الأطلسية لتعيد صياغة شروط الجغرافيا الاقتصادية في المنطقة، من خلال تقديم منفذ بحري استراتيجي لدول الساحل، يفتح أمامها آفاقًا جديدة للاندماج في الاقتصاد العالمي عبر واجهة المحيط الأطلسي.
إن هذا التحول لا ينحصر في الجانب اللوجستي أو التجاري فقط، بل يتجاوزه ليكرس منطقا جديدا للتعاون الإقليمي جنوب-جنوب، ينطلق من قاعدة التكامل لا التنافس، ويستند إلى منطق الاندماج الهيكلي بدل الاقتصار على الدعم الظرفي، وهكذا، فإن ربط دول الساحل بالمحيط الأطلسي، عبر شبكات وممرات حديثة وآمنة، لا يعني فقط تسهيل عبور البضائع، بل يشكل في العمق رافعة لإعادة تشكيل منظومة الاستقرار في غرب إفريقيا، على أساس المصالح المتبادلة والتنمية المشتركة، مع ما يترتب عن ذلك من آثار بعيدة المدى على الأمن الغذائي، والتحول الصناعي، وتدفقات الاستثمار.
1. المنفذ الأطلسي: مدخل لتحرير القدرات الاقتصادية لدول الساحل
تشكل دول الساحل الإفريقي أحد الدول الأقل ارتباطا بشبكات التجارة العالمية ، حيث لا يتجاوز حجم التجارة الخارجية لهذه الدول بين 10% إلى 20% من ناتجها المحلي الإجمالي، بينما لا تتجاوز نسبة التجارة البينية بين دول الساحل بشكل عام لا تتعدى 5% من إجمالي تجارتها الخارجية، وذلك بسبب غياب الولوج المباشر إلى البحر، مما يضعف من تنافسية صادراتها، ويكبل قدراتها الإنتاجية، ويجعلها رهينة لممرات برية ضيقة تخترق أقاليم غير مستقرة سياسيا وأمنيا وعليه، فإن إتاحة منفذ أطلسي مباشر لهذه الدول عبر التراب المغربي، أو عبر شراكات ثلاثية مع الدول الساحلية، سيساهم في تقليص التكاليف اللوجستية وتحسين شروط التبادل التجاري، ويمكن من توسيع قاعدة الاستثمارات في قطاعات حيوية مثل الفلاحة والطاقة والتعدين.
هذا المنفذ ليس مجرد امتداد جغرافي، بل هو إعادة توجيه استراتيجي لموقع دول الساحل في منظومة الاقتصاد الدولي، حيث سيمكنها من تجاوز المعابر الغربية التقليدية التي تعاني من الاكتظاظ، والجمود المؤسسي، وضعف تنافسية البنية التحتية، وبالتالي، فإن هذا الخيار يعد رهانا على سيادة اقتصادية جديدة لهذه الدول، قوامها الارتباط بمحيط حيوي يوفر لها شروط الاستقرار والولوج السلس إلى أسواق الأطلسي، سواء في أمريكا الجنوبية أو أوروبا أو غرب إفريقيا.
ومن شأن هذا الانفتاح أن يحدث أثرا مضاعفا في الاقتصاديات المحلية، من خلال توسيع الأسواق الداخلية، وتوفير منافذ للتصدير، وتطوير سلاسل التوريد الإقليمية، وهو ما سيغري مستثمرين دوليين بالاستثمار في مشاريع إنتاجية موجهة للتصدير، بدل الاعتماد على نماذج اقتصادية استهلاكية محدودة، كما سيساهم في تشجيع ريادة الأعمال المحلية، وربطها بمبادرات الاقتصاد الأزرق والنقل البحري.
إن التكامل مع الواجهة الأطلسية يمكن كذلك من تحرير القدرات اللوجستية للمنطقة، وجعلها أكثر قدرة على التأقلم مع التحولات المناخية والأزمات الجيوسياسية، خاصة أن هذه الممرات الجديدة ستكون مهيأة بمعايير الاستدامة، من خلال اعتماد الطاقات المتجددة، والرقمنة، وأمن المعطيات، مما سيجعلها منافسة للممرات العالمية الكبرى مثل قناة السويس أو موانئ البحر الأبيض المتوسط.
وفي المجمل، فإن تمكين دول الساحل من منفذ أطلسي عبر المبادرة المغربية لا يعد مكسبا لوجستيا فقط، بل يمثل إعادة تشكيل عميقة للبنية الاقتصادية والسياسية للمنطقة، كما يمكن أن يكون أحد أعمدة السلام الإقليمي، باعتبار أن الاندماج الاقتصادي يضعف منطق الصراعات، ويقوي من حضور الدولة الوطنية في مواجهة التهديدات غير النظامية مثل الإرهاب والتهريب.
2. تقليص التبعية للمعابر التقليدية وإعادة توازن الجغرافيا التجارية
لطالما شكلت المعابر التقليدية في غرب إفريقيا القناة الرئيسية لتجارة دول الساحل، إلا أن هذه المعابر تعاني من هشاشة بنيوية تتعلق بالازدحام، وتعدد الوسطاء، وغياب الأمن، وضعف الحكامة، وهو ما جعل هذه الدول عرضة لمخاطر الانقطاعات في سلاسل الإمداد، ومن هذا المنطلق، فإن توفير بدائل من خلال المبادرة الأطلسية يشكل فرصة استراتيجية لتقليص هذه التبعية، وخلق شبكات نقل أكثر كفاءة وتنوعا، ما يساهم في تعزيز السيادة الاقتصادية لدول الساحل.
فالتبعية للمعابر التقليدية لم تكن مجرد إكراه اقتصادي، بل أنتجت تبعية سياسية وأمنية، حيث تهيمن أطراف محددة على طرق العبور، وتفرض رسوم مرتفعة وقيود بيروقراطية تعيق تدفق السلع والخدمات، وبالتالي، فإن تقليص هذه التبعية من خلال ربط مباشر بالموانئ الأطلسية سيمكن من تقليص كلفة التبادل، وتسريع دورة الإنتاج، وجذب استثمارات نوعية تبحث عن بيئة مؤسساتية مستقرة.
ويعد المغرب في هذا السياق فاعلا موثوقا قادرا على تأمين هذا التحول، بحكم امتلاكه لبنية تحتية حديثة، وسياسات اقتصادية متقدمة في مجال اللوجستيك، فضلا عن حضوره الدبلوماسي الفعال في المنطقة، وقدرته على بناء شراكات رابح-رابح مع مختلف الفاعلين، مما يعزز من منطق الوساطة الاقتصادية، ويمنح دول الساحل هامش مناورة أكبر في علاقتها بالشركاء الإقليميين والدوليين.
كما أن هذا التوجه ينسجم مع التحولات الجارية في الاقتصاد العالمي، حيث أصبحت كفاءة سلاسل الإمداد عاملا حاسما في جاذبية الدول للاستثمار، وبالتالي، فإن الربط بالأطلسي يمثل فرصة لإدماج دول الساحل في شبكات التجارة العالمية على نحوٍ أكثر مرونة، مع الاستفادة من موقعها الجغرافي كبوابة للربط بين الشمال والجنوب، وبين الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط.
تقليص التبعية للمعابر التقليدية لا يعني القطيعة معها، بل بناء منظومة متعددة المسالك، تمكن هذه الدول من التفاوض من موقع قوة، وتجنب المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بالاحتكار الجغرافي، وهو ما سيمكن من إعادة صياغة الجغرافيا التجارية لغرب إفريقيا، لصالح منطق التعاون والتوازن والمصالح المتبادلة، بدل التنافس والتبعية والتجاذب.
3. الإدماج في دينامية الأطلسي كرافعة للاستقرار الاقتصادي والسياسي
تشكل المبادرة الأطلسية أفقا جديدا لإدماج دول الساحل في دينامية بحرية قارية واعدة، تجمع بين الإمكانات الاقتصادية الهائلة، والزخم الجيوسياسي المتصاعد، فالمحيط الأطلسي لم يعد فقط مجالا مائيا، بل أصبح فضاء استراتيجيا يشهد تحولات كبرى في الطاقة، والاتصالات، والبنية التحتية، والتبادل التجاري، وبالتالي، فإن إدماج دول الساحل في هذا الفضاء يمثل رهانا مزدوجا على الاستقرار الاقتصادي والتحول السياسي.
من الناحية الاقتصادية، يمكن لهذا الإدماج أن يوفر فرصا غير مسبوقة لهذه الدول لتحديث بنياتها التحتية، وتوسيع قاعدتها الإنتاجية، والانخراط في مشاريع كبرى تتعلق بالطاقة النظيفة، والتصنيع المحلي، وربط الأسواق الداخلية، كما أن هذا الانخراط يمكن أن يعيد تشكيل نماذجها الاقتصادية نحو التنويع، وتقليص الاعتماد على الموارد الأولية، وتطوير اقتصاد المعرفة والخدمات.
أما من الزاوية السياسية، فإن هذا الاندماج يعزز من حضور الدولة الوطنية في الفضاء العمومي، ويدعم مسارات الإصلاح السياسي والمؤسساتي، من خلال تقوية القدرات السيادية، وتوفير شروط التنمية المجالية المتوازنة، كما يقلل من قابلية المجتمعات للاختراق من طرف الفاعلين غير الوطنين، مثل الجماعات المتطرفة وشبكات التهريب، مما ينعكس إيجابا على استقرار المنطقة ككل.
ويلعب المغرب في هذا المسار دور الوسيط النشط، لا باعتباره فاعلا مهيمنا، بل شريكا يوفر الإطار المؤسساتي، والضمانات السياسية، والدعم التقني، ويقترح نموذجا في الحكامة يمكن البناء عليه، خاصة أنه راكم تجربة ناجحة في الدمج بين الاستقرار السياسي والانفتاح الاقتصادي، مما يمنحه مصداقية عالية لدى شركائه في إفريقيا، وإذا ما تم تثمين هذه الدينامية بشكل سليم، فإنها قادرة على إحداث تأثيرات ايجابية في مستويات متعددة، تشمل الأمن الغذائي، وتحسين الدخل، وتوسيع الطبقة الوسطى، وتطوير القدرات، وبالتالي، فإن الرهان على الإدماج الأطلسي لدول الساحل ليس خيارا ظرفيا، بل استراتيجية طويلة الأمد من أجل بناء فضاء إقليمي متماسك وآمن ومندمج، قائم على التوازن والتكامل لا على الهشاشة والاحتماء.
الفصل الخامس: المغرب كقاطرة للمبادرة الأطلسية
بالنظر إلى السياقات الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة التي تعرف تحولات متسارعة على مستوى القارة الإفريقية، يبرز المغرب كفاعل وازن يسعى إلى إعادة تشكيل خريطة التعاون الإقليمي من خلال المبادرة الأطلسية، إذ لا يقتصر الأمر على عرض تقني للبنية التحتية أو تقديم مبادرات ظرفية، بل يتعلق برؤية استراتيجية مندمجة ترتكز على تثبيت شراكة متوازنة بين دول غرب إفريقيا والساحل، في أفق بلورة قطب أطلسي إفريقي متجانس وقادر على التفاعل مع المتغيرات العالمية، وتوفير شروط التنمية المستدامة في محيطه، من خلال الجمع بين الأمن، التنمية، والتكامل الاقتصادي، هذه الرؤية تجعل من المغرب مركز ثقل ووسيط استراتيجي بين إفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية.
تأتي مكانة المغرب في هذا الإطار نتيجة لتراكمات مؤسساتية واستثمارات استراتيجية مدروسة، شكلت الأساس لتحوله من فاعل إقليمي محدود إلى محور مركزي في السياسات الإفريقية ذات البعد الأطلسي، حيث استثمر المغرب في استقرار محيطه المباشر، وعمل على تكريس مقاربة ترتكز على التضامن، نقل الخبرات، وبناء شراكات متوازنة مع مختلف الدول الإفريقية، ولعل انخراطه في مبادرات نوعية مثل خط أنبوب الغاز مع نيجيريا، والمنطقة الصناعية بطابع قاري في الداخلة، يؤكد سعيه إلى بلورة نموذج تنموي إقليمي يربط بين التحديث الاقتصادي والاستقرار السياسي، وهو ما يعزز شرعيته لقيادة هذه المبادرة الطموحة.
1. البنية التحتية المينائية والربط اللوجستي:
راكم المغرب خلال العقدين الأخيرين تجربة رائدة في تطوير بنياته التحتية المينائية، حيث يعد ميناء طنجة المتوسط نموذجا متقدما في الربط العالمي بين إفريقيا وأوروبا، إذ تجاوز دوره كمنصة لنقل البضائع ليصبح مركزا لوجستيا وماليا وخدماتيا متكاملا، بفضل قدرته العالية على استيعاب تدفقات ضخمة من السلع وربطها بشبكات عالمية في ظرف زمني قصير، كما تمتد شبكة الموانئ الوطنية من الناظور والدار البيضاء إلى الداخلة، مما يعزز قدرة المغرب على لعب دور الوسيط التجاري لأفريقيا الأطلسية.
من جانب آخر، تمثل الاستثمارات المغربية في الطرق السيارة، السكك الحديدية عالية السرعة، والمناطق اللوجستية نقاط قوة استراتيجية تساهم في تعزيز سلاسل القيمة القارية، إذ ترتبط الموانئ بمحطات صناعية حديثة وشبكة توزيع فعالة، ما يتيح خلق دينامية اقتصادية متعددة الأقطاب وقادرة على الربط الفعال بين الساحل الإفريقي والمحيط الأطلسي، وهو ما يمنح المبادرة بعدا تكامليا من حيث تيسير التبادل التجاري وخفض الكلفة اللوجستية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه البنيات لا تقتصر على الداخل المغربي، بل يمتد أثرها عبر مشاريع مهيكلة موجهة نحو العمق الإفريقي، مثل طريق تيزنيت الداخلة ومشروع الربط الطرقي مع موريتانيا ومالي، ما يترجم الرغبة المغربية في تحويل التراب الوطني إلى قاعدة خلفية لدول الساحل، وتمكينها من واجهة أطلسية تؤمن انخراطها في سلاسل التجارة العالمية، مع ضمان أمن المعابر وتحسين جاذبيتها الاستثمارية.
ويساهم هذا الربط اللوجستي في الحد من هشاشة الاقتصادات الساحلية غير المتوفرة على منافذ بحرية، إذ توفر الممرات المغربية إمكانية ولوج مستقلة وآمنة إلى الأسواق العالمية، دون المرور عبر ممرات تقليدية مليئة بالتحديات الأمنية والمؤسساتية، ما يمنح المغرب ميزة تنافسية تجعله شريكا مفضلا لهذه الدول في مجال إعادة توجيه تدفقاتها التجارية.
في هذا السياق، يصبح الاستثمار في الربط اللوجستي ليس فقط رهانا تقنيا أو اقتصاديا، بل ورقة جيوسياسية بامتياز، يعزز بها المغرب موقعه التفاوضي في المنتديات الإفريقية والدولية، ويؤسس لقطب أطلسي جديد قادر على خلق التوازن بين متطلبات السيادة الاقتصادية وضرورات الانفتاح التجاري، في محيط متقلب وعالي المخاطر.
2. الاستقرار السياسي والرؤية الإفريقية:
يشكل الاستقرار السياسي والمرونة المؤسساتية ركيزتين أساسيتين في قدرة المغرب على لعب دور القاطرة في المبادرة الأطلسية، إذ يعتبر البلد من بين القلائل في المنطقة الذين استطاعوا الحفاظ على توازن داخلي وسط محيط مضطرب، ما يمنحه مصداقية عالية في أعين الشركاء الدوليين والإقليميين، ويعزز من جاذبيته كقاعدة خلفية للأعمال والاستثمار والتعاون جنوب–جنوب.
تنسجم هذه الوضعية مع الرؤية الإفريقية الشاملة التي تبناها المغرب منذ العودة إلى الاتحاد الإفريقي، والتي ترتكز على تفعيل شراكات استراتيجية قائمة على الاحترام المتبادل، المصلحة المشتركة، ونقل المعرفة، حيث تمثل إفريقيا العمق الاستراتيجي للمغرب، ومجالا لتجسيد نموذجه التنموي خارج حدوده الجغرافية، من خلال مشاريع ملموسة ذات بعد سوسيو اقتصادي.
من هذا المنطلق، لا تقتصر مكانة المغرب على البعد الاقتصادي أو الجغرافي، بل تمتد إلى قدرته على تقديم مبادرات ذات مصداقية عالية، ومبنية على قراءة واقعية لحاجيات الدول الإفريقية، وهو ما يظهر جليا في خطابه الملكي المؤسس للمبادرة الأطلسية، والذي أبرز الأبعاد التضامنية والاندماجية للمشروع، مع دعوة جميع الشركاء إلى الانخراط من منطلق المصلحة الإفريقية الجماعية.
وتساهم المقاربة المغربية، التي تجمع بين الواقعية الاقتصادية والرؤية الاستراتيجية، في تقديم بديل فعال عن نماذج التعاون التقليدية القائمة على التبعية أو الوط السياسية، إذ تقدم الرباط نموذجا تنمويا قادرا على المزج بين النجاعة الاقتصادية والبعد الإنساني، مع التركيز على خلق الثقة بين الأطراف وتثبيت قواعد استثمار مشترك منتج، حيث يرسخ المغرب موقعه كقاطرة فكرية ومؤسساتية تسعى إلى صياغة معادلات جديدة للتكامل الإفريقي، عبر مبادرات عملية تنطلق من حاجة القارة إلى نماذج نابعة من داخلها، وليس مفروضة عليها من الخارج، ما يعكس تحولا نوعيا في تموضعه القاري، وتقدما استراتيجيا في مسار بلورة قطب أطلسي مستقل ومتعدد الأبعاد.
3. المشاريع التنموية المغربية في إفريقيا: الشراكة المتبادلة والاستقرار
يأتي انخراط المغرب في القارة الإفريقية كخيار استراتيجي يعكس تحولا نوعيا في السياسة الخارجية للمملكة، حيث تجاوزت العلاقات التقليدية بين الدول نحو نمط جديد من التعاون يقوم على التنمية المشتركة والاستثمار المنتج و توفير شروط الاستقرار، ومن أبرز تجليات هذا التوجه المشروع الضخم لأنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، الذي يشكل خطوة غير مسبوقة على درب التكامل الإقليمي، إذ سيمتد الأنبوب على مسافة تزيد عن 5600 كيلومتر يمر من خلالها عبر 13 دولة إفريقية، خاصة في بلدان يعاني بعضها من نسب ربط كهربائي لا تتجاوز 15%، كغينيا بيساو وسيراليون وغامبيا، حيث يمنحها المشروع فرصة تاريخية لتجاوز هشاشتها الطاقية، من خلال خلق بنيات تحتية مستدامة تمكنها من ضمان أمنها الطاقي وتعزيز قدراتها الإنتاجية، وهو ما يشكل حجر الزاوية في أي مشروع تنموي جاد.
لا تقتصر أهمية هذا المشروع على الجانب الطاقي فحسب، بل تمتد إلى خلق دينامية اقتصادية واجتماعية عابرة للحدود، إذ سيمكن من إدماج عدد من الاقتصادات الهشة ضمن شبكة إقليمية لتبادل الطاقة، ويخلق فرص شغل مباشرة وغير مباشرة، كما سيفتح آفاقا واسعة لتطوير الصناعات التحويلية المرتبطة بالغاز والبترول، ويؤسس لفضاء اقتصادي متكامل يتخطى الحواجز الجغرافية والمؤسساتية، وتكمن خصوصية المقاربة المغربية في هذا المجال في تركيزها على الطابع التضامني للمشاريع، حيث لا يتم التعامل مع الشركاء من منطلقات استعمارية أو ربحية صرفة، بل ضمن تصور جماعي يربط بين التنمية البشرية والتكافؤ في الفرص، ما يعزز مصداقية الرباط كشريك موثوق به وقادر على تأمين حلول واقعية وملموسة لمشاكل التنمية المستعصية في إفريقيا.
في السياق نفسه، تبرز استثمارات المغرب في قطاع الأسمدة كأحد أعمدة تدخله التنموي في إفريقيا، إذ يمثل المكتب الشريف للفوسفاط ذراعا تنفيذية قوية للاستراتيجية المغربية الرامية إلى تعزيز الأمن الغذائي في القارة، وذلك من خلال إنشاء مصانع إنتاج وتعبئة الأسمدة في دول مثل نيجيريا وإثيوبيا، وتوفير تركيبات فلاحية متكيفة مع حاجيات التربة الإفريقية، مما يمكن الفلاحين من تحسين مردوديتهم الإنتاجية ورفع مستوى الاكتفاء الذاتي، كما تندرج هذه المبادرات في إطار رؤية مندمجة تعتبر الفلاحة رافعة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ما يفسر حرص المغرب على إرساء شراكات بعيدة المدى في هذا المجال، تجمع بين البحث العلمي، التكوين التقني، والتمويل المرن، لتجاوز التبعية للأسواق الدولية ومواجهة تقلبات أسعار المواد الفلاحية الأساسية.
وتعد هذه المشاريع جزءا من تصور أشمل يهدف إلى بلورة نموذج تعاون جنوب-جنوب فعال وذو مردودية، حيث لا تقتصر مساهمة المغرب على التمويل أو الدعم اللوجستي، بل تشمل أيضا نقل الخبرات والتجارب، وتوفير المواكبة التقنية والمؤسساتية، مما يجعل من هذه الاستثمارات أدوات لإعادة بناء النسيج الاقتصادي والاجتماعي في العديد من الدول الإفريقية، كما تعكس هذه المقاربة التحول في موقع المغرب من متلق للمساعدات إلى مساهم في التنمية القارية، انطلاقا من قناعة راسخة بأن مستقبل إفريقيا لا يبنى إلا بسواعد أبنائها وبتضامن فعلي بين مكوناتها، وهو ما يمنح للدور المغربي طابعا استثنائيا في زمن تتراجع فيه فعالية النماذج التقليدية للتعاون الدولي.
وتعزز هذه الدينامية التنموية مكانة المغرب كقوة إقليمية مسؤولة، تملك أدوات التأثير الناعم وتستثمر في الاستقرار طويل الأمد، إذ تعتبر مشاريع الغاز والأسمدة مجرد واجهة لتصور تنموي أوسع يهدف إلى خلق أقطاب اقتصادية إفريقية مترابطة، تستفيد من التكامل القطاعي وتنوع الموارد، وتتمتع بالقدرة على الولوج إلى الأسواق العالمية من موقع قوة، وهو ما يتطلب ليس فقط التمويل والبنيات التحتية، بل أيضا إرادة سياسية وقدرة على التأقلم مع التحديات المتغيرة، وهي مؤهلات أثبت المغرب توفرها من خلال حضوره الفاعل في المبادرات القارية متعددة الأطراف، ونجاحه في خلق تقاطعات استراتيجية بين الأمن، الطاقة، والغذاء، كعناصر أساسية في معادلة التنمية المستدامة.
يتأكد من خلال ما سبق أن الحضور المغربي في إفريقيا لم يعد مجرد خيار جيوسياسي أو رهان دبلوماسي، بل أصبح مسارا تنمويا متكاملا يعيد رسم العلاقات الإفريقية من منطق التبعية إلى منطق الشراكة، ومن منطق الانتظارية إلى منطق الفعل، حيث تتلاقى المشاريع الكبرى مثل أنبوب الغاز واستثمارات الأسمدة مع التوجهات الكبرى للمبادرة الأطلسية، لتشكل مجتمعة دعائم قوية لبناء قطب إفريقي جديد، ينطلق من الأطلس نحو العمق القاري، ويتأسس على الاندماج والتضامن لا على المصالح الظرفية، مما يجعل من المغرب ليس فقط منصة اقتصادية أو فاعلا سياسيا، بل شريكا حقيقيا في صياغة مستقبل إفريقيا بعيون إفريقية ومن خلال مقاربات واقعية وفعالة.
خلاصة وتوصيات:
تعتبر المبادرة الأطلسية المغربية خطوة استراتيجية تعكس التزام المغرب بتعزيز التعاون الإقليمي والتنمية المستدامة في قارة إفريقيا، حيث تهدف إلى خلق بيئة تنموية متكاملة تستفيد منها الدول المطلة على المحيط الأطلسي، بما في ذلك دول الساحل التي تفتقر إلى منافذ بحرية مباشرة، من خلال ضمان ربط اقتصادي مستدام، ويمثل هذا المشروع نقلة نوعية نحو تعزيز الشراكات الاقتصادية عبر قنوات تجارية مبتكرة ومتنوعة، التي تعتمد على الربط اللوجستي والتعاون في مجالات البنية التحتية، الطاقات المتجددة، والتعليم، والصناعة.
كما أن هذه المبادرة تتعدى بعدها الإقليمي إلى أفق قاري شامل، يتطلع إلى تحفيز الاقتصاديات المحلية وتعزيز النمو الصناعي والتجاري، وهو ما يضمن تقليص الفجوة التنموية بين الدول الإفريقية المختلفة، بما في ذلك تلك غير الساحلية.
من جهة أخرى، فإن المبادرة الأطلسية تعكس الدور المحوري للمغرب في تعزيز التعاون بين دول غرب إفريقيا والساحل، إذ يسعى إلى ضمان سلاسة التنقل التجاري بين دول جنوب الصحراء، عبر استخدام موانئه المتطورة كقنوات رئيسية للتبادل التجاري، ويتيح هذا التكامل اللوجستي مع دول الساحل إمكانية الوصول إلى الأسواق العالمية، في وقت تظل فيه التجارة التقليدية مع أوروبا وآسيا بحاجة إلى تحديث وتطوير.
هذه الديناميكية الجديدة تساهم في تحفيز الاقتصاديات الإفريقية، وتفتح المجال أمام إنشاء أسواق محلية جديدة تساهم في تنمية الدخل القومي وتوفير فرص العمل.
أهمية المبادرة الأطلسية لا تكمن فقط في البعد الاقتصادي، بل أيضا في تعزيز الاستقرار السياسي على مستوى القارة، حيث يسعى المغرب من خلالها إلى بناء شبكة من الشراكات القوية التي تعتمد على التكامل وليس التنافس، مما يساهم في بناء إطار سياسي متين يحفظ مصالح الدول الأطلسية والإفريقية على حد سواء، حيث يمتد هذا التعاون إلى إشراك جميع الأطراف الفاعلة، سواء كانت حكومية أو غير حكومية، مما يضمن استدامة المبادرة على المدى البعيد، ويساهم في تفعيل مشاريع مشتركة في المجالات الاجتماعية، الاقتصادية، والبيئية، التي تضمن شمولية التنمية ونجاح المبادرة.
ولتعزيز فعالية المبادرة الأطلسية وتحقيق أهدافها الاقتصادية والجيوسياسية، من الضروري أن يتم دعم تطوير شبكات النقل والموانئ بشكل مستمر، إذ لا يمكن للمبادرة أن تحقق أهدافها في غياب بنية تحتية متطورة تدعم الربط بين الدول المعنية، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي، ويجب العمل على تحديث الموانئ الحالية وإنشاء بنية لوجستية حديثة تدعم حركة التجارة بشكل مستدام، مما يساهم في تقليص التكاليف اللوجستية وتعزيز جاذبية الأسواق الأطلسية للمستثمرين الأجانب، حيث يشكل هذا الدعم خطوة أساسية نحو تيسير تدفق السلع والخدمات، ويعمل على تقوية التكامل الاقتصادي بين دول الأطلسي من خلال شبكات متعددة تغطي كافة المجالات التجارية.
من جهة أخرى، يعد إرساء أطر مؤسساتية قوية وفعالة للتعاون الأطلسي أمرا حيويا لتحقيق أهداف المبادرة، ويتطلب الأمر تشكيل هيئات إقليمية مختصة تجمع بين القطاعين العام والخاص، بحيث تتولى هذه الهيئات مسؤولية تنسيق المشاريع المشتركة، وتتأكد من تنفيذ السياسات بفعالية وشفافية، حيث يجب ان تكون هذه المؤسسات قادرة على تيسير التبادل المعلوماتي وإدارة مشاريع البنية التحتية، وتحديد أولويات التعاون بين الدول المشاركة، ما سيساهم في ترسيخ الثقة بين الفاعلين الاقتصاديين والدوليين، مما يعزز استقرار المبادرة ويضمن استدامتها.
في سياق موازي، من الضروري إشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني بشكل أكبر في المبادرة، إذ يشكل هؤلاء الفاعلون شريكا أساسيا في نجاح المشاريع التنموية، سواء من خلال توفير التمويل أو نقل الخبرات، كما يجب أن يتم خلق بيئة تحفيزية للمستثمرين المحليين والدوليين، تتيح لهم فرصا ملموسة في القطاعات الحيوية مثل الطاقات المتجددة، التعليم، والصناعة التحويلية.
ومن التوصيات أيضا ضرورة ضمان انفتاح دائم وشراكة حقيقية مع دول الساحل غير الساحلية، وذلك من خلال تمكين هذه الدول من الوصول المستدام إلى المحيط الأطلسي، وهو ما يساهم في تحقيق التنمية المستدامة في هذه البلدان، كما يجب على المغرب العمل على تعزيز آليات التعاون الموجهة إلى هذه الدول، عبر توفير منفذ اقتصادي آمن وموثوق، يوفر لها فرصا جديدة للاستثمار ويعزز قدراتها التنافسية في الأسواق العالمية.
و يتطلب الأمر كذلك بناء شراكات استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات التنموية الخاصة لهذه الدول، مع تعزيز آليات الأمن الغذائي، والطاقة، والتعليم، بما يساهم في تحسين الظروف المعيشية وتحقيق نمو اقتصادي مستدام، بالإضافة الى ان تتبع تأثير المبادرة على الاقتصاد المحلي والإقليمي، حيث يتعين أن تكون هناك مكاتب تنسيق تتابع أداء المبادرة، وتواكب المتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية لضمان مرونتها ونجاحها على المدى الطويل.
المراجع:
اعلان الرباط حول تحالف الدول الإفريقية الأطلسية الصادر عقب اجتماع ممثلي 20 دولة إفريقية في الرباط
تقرير المجلس الاقتصادي و الاجتماعي حول الاندماج الإقليمي للمغرب في افريقيا 2020
Carnegie Middle East Center تحليل معمق حول أهداف المغرب الجيوسياسية من المبادرة، خاصة في سياق انسحاب بعض دول الساحل من مجموعة “الإيكواس” ومحاولة الرباط تعزيز نفوذها الإقليمي.
London Politica دراسة حول إمكانيات المبادرة في إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية
التقرير الاقتصادي الإقليمي لإيكواس 2023
تقرير التقارب الاقتصادي الكلي لإيكواس لعام 2022
تقرير الأداء الاجتماعي والاقتصادي لغرب إفريقيا 2024 للجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة
تقرير صندوق النقد الدولي حول سياسات الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا (WAEMU) – ماي2025
تقرير لصندوق النقد الدولي حول الآفاق الاقتصادية الإقليمية لإفريقيا جنوب الصحراء – عدد أبريل 2025
تقرير لصندوق النقد الدولي حول التنقيب عن الفرص: استغلال ثروات إفريقيا جنوب الصحراء من المعادن الحيوية ابريل 2024
التاريخ الاقتصادي لأفريقيا الغربية – تأليف: أ. ج. هوبكنز، ترجمة: المركز القومي للترجمة، القاهرة
تقرير أنشطة المكتب دون الإقليمي لغرب إفريقيا التابع للجنة الاقتصادية لأفريقيا (2023-2024) – اللجنة الاقتصادية لأفريقيا
Africa’s Development Dynamics 2024 منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)
Accelerated Economic Growth in West Africa – Diery Seck
* مركز الاستشراف الاقتصادي والاجتماعي
إنجاز: على الغنبوري – مشيج القرقري