آراءسياسة
أخر الأخبار

نكوصية الخطاب السياسي في المغرب.. النخبة الحزبية بين التردي والفراغ القيمي (بنكيران وأخنوش نموذجا)

كثير من زعماء الأحزاب السياسية المغربية اليوم لا يملكون مشروعًا فكريا واضحا، ولا رؤية استراتيجية بعيدة المدى..

نكوصية الخطاب السياسي في المغرب ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي مؤشر عميق على أزمة القيم والمعنى داخل النخبة الحزبية.

فالسياسة التي يفترض أن تكون ممارسة عقلانية ومجالية للصراع من أجل المصلحة العامة، تحولت إلى مسرح عبثي تتجلى فيه لغة الخواء والتناقض والشخصنة، وتتراجع فيه المبادئ لصالح الحسابات الضيقة.

النخبة الحزبية المغربية، التي يفترض أن تلعب دور الوسيط بين الدولة والمجتمع، صارت جزءًا من المشكلة بدل أن تكون بوابة الحل.

في مقدمة هذه النخبة، يبرز عبد الإله  إبن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، الذي كان ينظر إليه ذات يوم كصاحب كاريزما وقدرة على مخاطبة الشارع المغربي.

غير أن مساره السياسي كشف عن نكوص خطير في الخطاب والممارسة، حيث تحولت مداخلاته إلى هجومات لفظية، واستعراضات خطابية قائمة على العداء، والمظلومية، والتأويلات الشعبوية التي لا تنتج وعيا بقدر ما تثير الغرائز.

استبدل إبن كيران لغة المؤسسات بلغة الخرجات، وأفرغ السياسة من بعدها العقلاني ليملأها بجرعات من الإثارة والتهكم، كأن الغاية من السياسة لم تعد التغيير بل التشويش.

في المقابل، يقدم عزيز أخنوش نموذجا مغايرا للنخبة المتكلسة، لكنه لا يقل نكوصًا من حيث الأثر.. فالرجل الذي يقود الحكومة الحالية، ورغم إمكانياته المادية الهائلة، يبدو عاجزا عن إنتاج خطاب سياسي واضح المعالم. لغته مترددة، سطحية، تفتقر للروح، وكأنها نحتت في مختبر علاقات عامة لا في حقل السياسة الحقيقية.

أخنوش لا يتواصل بقدر ما يصر على البقاء في دائرة الصمت المريب، وكأن السياسة مجرد معادلة حسابية تدار من مكاتب شركات لا من تفاعلات اجتماعية وتاريخية.

وإذا كان بنكيران قد اختزل السياسة في الصراخ، فإن أخنوش قد اختزلها في الصمت.

المشكلة لا تتوقف عند هذين النموذجين، بل تمتد إلى مجمل الفاعلين السياسيين الذين تنازلوا عن دورهم التنويري، ورضوا بلعب أدوار هامشية داخل مشهد متآكل.

كثير من زعماء الأحزاب السياسية المغربية اليوم لا يملكون مشروعا فكريا واضحا، ولا رؤية استراتيجية بعيدة المدى، بل ينتجون خطابا مكرورا، خاليا من أي نفس فلسفي أو أخلاقي.

تتحول الانتخابات إلى سوق للمزايدات، والتحالفات إلى توافقات انتهازية، والخطابات إلى شعارات جوفاء تنسى بمجرد انتهاء البث المباشر.

من منظور فلسفي، فإن هذا النكوص يعكس أزمة تواصل عميقة كما حللها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، إذ يتحول الخطاب من أداة للفهم المتبادل إلى وسيلة للهيمنة والتشويش.

في ظل غياب التأسيس الفلسفي للخطاب السياسي، وتراجع دور المثقف العضوي، لم يعد للغة السياسية أي قدرة على إنتاج المعنى أو تجسيد الطموحات الجماعية.

بل إن الخطاب السياسي المغربي اليوم يسهم في تعميق اللامبالاة، ويغذي مشاعر الاغتراب داخل المجتمع، حيث يشعر المواطن أن لا أحد يتحدث باسمه أو لأجله.

السياسة التي يفترض أن تكون فن التمثيل الرمزي للواقع، تحولت إلى مرآة عاكسة لكل التشوهات: المال، الولاء، النفاق، والتسلق الاجتماعي.

ومع كل دورة انتخابية، تزداد المسافة بين الفاعل السياسي والمواطن، وتترسخ قناعة لدى الأغلبية بأن الأحزاب لم تعد سوى واجهات شكلية داخل نظام سياسي يرفض الإصلاح الحقيقي ويؤجل التغيير إلى ما لا نهاية.

وفي هذا السياق، تسقط تبانات السياسة واحدًا تلو الآخر، ليس فقط بمعناها المجازي، بل بالمعنى الرمزي الذي يكشف عري الخطاب، وفراغ المضمون، وابتذال الممارسة.

إن النخبة التي لا تنتج خطابا ذا معنى، ولا تحترم ذكاء المواطن، إنما تعجل بانهيار السياسة نفسها كأفق ورجاء.

وهنا نستحضر قول ميشيل فوكو: “حين تسقط الأقنعة، لا يبقى إلا العُري الصادم للسلطة”. وهذا ما نعيشه اليوم، حيث لم تعد النخبة تغطي عريها سوى بكلمات ممزقة، وصمت ثقيل، وضحك بلا معنى.

https://anbaaexpress.ma/fc1pi

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

تعليق واحد

  1. واقع السياسة بدون مثقفين واعلام يتماهى مع سلطة الأحزاب ستؤدي بلا شك الى الاغتراب المجتمعي احسنت سي عبدالحي مقال يستحق القراءة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى