بقدر ماكان التاريخ الأوربي الحالي لامعاً بالعقلانية والتنوير، وحرية الفكر، والديموقراطية الداخلية، وحل مشكلة نقل السلطة السلمي، وحرية المرأة النسبي، والثورة العلمية، والتسامح الثقافي، والايمان بالتعددية، وتحرير آليات النقد الاجتماعي؛ فليس هناك حقل أو مؤسسة أو شخص فوق النقد؛ بقدر ماتخلصت أوربا من الوثنية السياسية وعبادة الأشخاص، بقدر ماكان تاريخها ظلامياً استعمارياً مروعاً بحجم خرافي، ربما لم تمارسه أمم من الأمم، في سبعة روايات درامية فاجعة؟؟
حرق الانسان من أجل رأيه ؟؟
أفظع مافي الفصول قصص محاكم التفتيش باستخدامها (النار ذات الوقود) لحرق الناس احياءً من أجل آرائهم؟
إن حرق الناس من أجل آرائهم ليس أفكاراً من بنات الخيال أو (الفبركة التاريخية)؟ إن هناك ملايين من الناس أنهوا حياتهم فوق أكوام القش والخشب الملتهب في أشنع موتة مكن تصورها، وهي التي دفعت (غاليلو) رأس الحداثة وعصر التنوير عام 1633 م؛ كما وصفه الفيلسوف البريطاني (راسل) أن يفقد جرأته الأدبية أمام ألسنة النيران الراقصة، ويركع خاشعاً أمامها، ويدون كلمات حزينة ذليلة، بالاعتراف الكامل، أنه كان في ضلال مبين.
إن التاريخ حفظ لنا هذا في أعظم وأوثق مدونة تاريخية في القرآن؛ مما يجعلنا نفهم لماذا ينزِّل الله من عليائه، سورة كاملة تحمل رمزية عميقة باسم (البروج)، في الدفاع عن الانسان الذي يحرق من أجل رأيه فقط، كما حصل مع المفكر الأيطالي (جيوردانو برونو) الذي شوي على نار ذات لهب، في 17 فبراير عام 1600 ميلادي، في افتتاحية متناقضة (مشؤومة ـ مباركة) للقرن السابع عشر، قرن التنوير؛ فالنار ذات اللهب من جسد برونو المحترق أنارت روح القرن.
برونو اعتبروه أحُرقا لإنه رأى أن مفهوم مركب الأقانيم الثلاثة (TRINITY) لايتوافق مع نظام كوني فسيح أكبر من تصورات الكنيسة، عندما أحدثت شرخاً بين الإيمان والعلم، خلَّف ظلاله الكئيبة على كل الجنس البشري. على كل مساحات التفكير. على كل أحرار الفكر، على كل من يكتب بشكل وآخر؛ فأصبح الفكر والدين في تضاد ونقيض وتنافر وحرب.
ومانكتبه اليوم هو محاولة دؤوبة لإعادة الصلة الطبيعية، كما فعل القرآن بتصميم في مزج العلم بالإيمان (وقال الذين أوتوا العلم والايمان).
العلم ليس اصول فقه وتفسير. العلم يضم هذا ويزيد من الكوسمولوجيا والانثروبولوجيا (علم الفلك والانسان) وسواه. الكنيسة قامت بخطيئة تاريخية رسمت فيها صراعاً وإشكالية، لم يتحرر منها العقل الانساني ويتعافى حتى هذه اللحظة .
سبع روايات درامية فاجعة يؤلفها الغرب
الغرب قام بخط سبع فقرات تاريخية دموية من: (1)(محاكم التفتيش) و (2)(الحروب الصليبية) و (3)(اشعال الحروب الكونية) و(4)(محارق النازية) و(5)(ابادة مائة مليون أسود في حملات نهب أفريقيا) و(6)(ابادة مائة مليون انسان تحت ظل الأنظمة الشيوعية) و(7)(تفريغ قارات أمريكا بأكملها من سكانها وتدمير حضارات عالمية).
هذه الرواية التاريخية تفيدنا بثلاث ملاحظات:
1 ـ بقدر ماكان التسامح اكسجين الحضارة بقدر ماكان التعصب اكسيد فحمها على حد تعبير المفكر (جورج طرابيشي)(1)
2 ـ وأن أوربا لاتخرج عن السياق الكوني؛ فكل حضارة عانت وتطورت؛ ولايوجد تميز لحضارة عن حضارة، وتلك الأيام نداولها بين الناس، فليس العقل الأوربي بخارج عن الخرافة، ولا العقل العربي بمحمي من السقوط في الخرافة، ومرض الاستبداد ليس شرقياً؛ بل هو مرض انساني، يمكن أن تسقط في براثنه أية أمة، أو يقع في سجف ظلامه أي شعب إذا لم يحرر بآليات وعي حادة وتنظيم قوى مضادة.
3 ـ والحكمة الثالثة أن أوربا بقدر التماعها في العصور الحديثة بعد انتشار حركة التنوير، بقدر ظلاميتها التاريخية في العصورالوسطى، بقدر تحرر الاوربيين الداخلي يتخذون مصانع لعلهم يخلدون، بقدر إذا بطشوا بطشوا جبارين؛ فكما علوا في الارض حالياً وجعلوا العالم شيعاً يستضعفون طائفة منهم، كذلك كانوا في أسفل سافلين من قبل، فتحرروا بنور العقل وحرية الرأي؛ فالعالم المسيحي بعد انحطاط دام الف سنة بدأ يتقدم، والعالم الاسلامي بعد تقدم خمسة قرون طفق يتراجع. العالم المسيحي انتهى الى مابدأ منه العالم الاسلامي. والعالم الاسلامي انتهى الى مابدأ منه العالم المسيحي(2)
كتبت الحضارة من اليسار إلى اليمين بالدم؟
يروي لنا التاريخ (سبعة) فصول إجرامية تمت على يد الجنس الأبيض، كشف الفاتيكان النقاب عن الفصل الأخير فيها بمحاولة (بريسترويكا داخلية) بالسماح للمؤرخين بالاطلاع على (4500) ملف سري يعود لأيام محاكم التفتيش (INQUISTION) من العصور الوسطى(3)
كتبت هذه الفصول فيها من اليسار الى اليمين بالدم، بعد أن كانت تكتب الحضارة بمداد من اليمين الى الشمال. نفذ طرف من هذه الفصول في العصور الحديثة، ممالايقترب من مستواه أي طاغية أو مجرم من حجم هولاكو أو تيمور الأعرج.
أهمية ماحدث أنه طبق على يد دول عصرية متعلمة، نفذتها بروح سادية يصعب فهمها ومن خلال مركزية أوربية تلغي الآخر فيه، وبحجم من الضحايا يعبر عنه منطق الشيوعي جوزيف ستالين (موت انسان تراجيديا أما موت الملايين فهي مسألة احصائية)(4)
إحراق مليون امرأة بتهمة السحر
أوروبا انشأت محاكم التفتيش وبقيت تعمل لفترة تزيد عن خمسة قرون، في مهمة مقدسة لإطفاء حركة العقل وهمس الفكر، أرسلت فيها الى أقبية الموت المظلمة الباردة، حسب أحدث التقديرات رقماً يقشعر له البدن، يتراوح بين واحد الى عشرة ملايين، منهم بين عامي 1450 – 1750 مليون امرأة الى المحارق تحت تهمة السحر.
ابادة مائة مليون أسود؟
أوروبا شحنت من شواطيء أفريقيا فيما يشبه علب السردين، شعوباً كاملة من السود، مسروقين مصادرين في ظروف شحن لاتتحملها الأنعام، مات خلالها أكثر من مائة مليون انسان، في أكبر مجزرة جماعية عرفها تاريخ انتقال الانسان من قارة الى قارة.
الحروب الصليبية السبعة؟
أوروبا شنت أطول وأفظع حرب عرفها الجنس البشري في تاريخه وربما لن يرى نظيرها في المستقبل، شنتها على العالم العربي لفترة 171 سنة (1099 – 1270 م) في سبعة حملات مروعة، لم ينجو من التدمير فيها شيء، ومن فتح هذه الرواية هو البابا (اوربان الثاني Urban II 1088ـ 1099) في 27 نوفمبر سنة 1095م في كليرمون جنوب فرنسا، تركت شرخاً نفسياً مازال يغذي الكثير من تصرفات الغرب تجاه القضايا العربية ليست آخرها ضرب معمل للأدوية في السودان في شهر أغسطس من عام 1998م. وحاليا مذبحة غزة؟
تدمير ثلاثة حضارات ومسح شعوب بكاملها من خارطة الحياة
أوروبا قامت في القرن السادس عشر بمسح شعوب كاملة من وجه الخريطة، وتفريغ قارات من أمم تعد بالملايين، وذبح حضارات متطورة من قارتين، ذنبها عدم إفراطها في التسلح ونقص مناعتها ضد الجدري، قام بالمذبحة يومها اسبانيا (رأس حربة أوربا المسيحية المتعصبة) عندما أبادت حوالي ثمانين مليون نسمة في أمريكا الوسطى لوحدها، وستة ملايين في أمريكا الجنوبية مع أنقاض مملكة الانكا (INKA) في البيرو، وأما جزر الكاريبي التي كان يعيش فيها مليونان من شعب التاينو (TAINO) رائع الجمال نضر الجسم كما وصفهم الغزاة الاوائل، كل ماتبقى منهم عندما وضع البريطانيون يدهم عليها في القرن الثامن عشر لم يزد عن مائتي شخص ؟!!(5)
الكنيسة تعترف (إنه عار SCHANDE)؟
محاكم التفتيش أسسها البابا (انوسنس الرابع INNOZENZ IV) عام 1252 م وبقيت تعمل لفترة خمسة قرون، أرسلن خلالها الى لجة الموت رقماً يتراوح بين مليون الى عشرة ملايين، قضوا الكثير منهم نحبهم بالألم الفظيع على محارق النار ذات الوقود. لاغرابة أن أنزل الله في كتابه سورة بعنوان (البروج) يروي فيها قصة المحارق ويقسم (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود) ثم يوجه التهمة الى (قتل أصحاب الأخدود إذ هم عليها قعود) عندما يعذبون الناس ويحرقوهم لأفكارهم (ومانقموا منه الا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
لم يكن أمام الكنيسة ولو بعد قرون الا أن تدلي باعترافها الذي جاء على لسان البابا (يوحنا الثاني كارول فويتايلا KAROL WOJTYLA) بعبارات مثيرة: كيف يمكن للانسان ان يسكت عن ضروب من صور العنف المروعة تمارس باسم الايمان؟ كيف تشن الحروب الدينية وتقام محاكم التفتيش تنبش عن عقائد الناس باسم التقوى؟
كيف تمارس صنوف شتى من أشكال انتهاك حقوق الانسان باسم الدين؟ إنه ملفت للنظر أن هذه الطرائق من الاكراه كانت فواتح وبدايات انشاء الأنظمة التوتاليتارية للقرن العشرين؟! لقد كانت محاكم التفتيش مقدمات الجستابو (GESTAPO) النازي و (K.G.B.) الشيوعي و (STASI) ألمانيا الشرقية من أنظمة الاستخبارات التي تعتمد التعذيب صورة مشروعة لتدجين الانسان. لاننس المخابرات البعثية العبثية في الشرق الأوسط.
لم يعرف التاريخ أرحم من العرب !
هذا ماقاله المؤرخ الفرنسي (غوستاف لوبون) في كتابه عن حضارة العرب. تاريخنا لم يحفظ فظائع (محاكم التفتيش) من هذا الحجم باستثناء انفجارات محدودة يتعرض لها أي مجتمع.
هذه الابادة المنظمة والغاء الآخر الكامل كانت نموذجا غربياً كما اعترف بذلك المؤرخ البريطاني (توينبي TOYNBEE) عندما رأى الحضارة في العربية الاسلامية أنها الأولى من نوعها التي حافظت واعترفت بالآخر وسمحت له بالعيش والبقاء؛ فلم يعرف التاريخ أرحم من العرب في معاملة الآخر النسبية. ولايوجد مجتمع أكثر تسامحا ويعترف بالتعددية من كل حضارات الأرض كما حصل في المجتمع العربي.
ومثلا فمسجد قرطبة الهائل الذي كان يتسع لعشرين ألف انسان لايصلي فيه اليوم مسلم واحد الا أن يكون سائحاً كما حصل معي؟ وفي الوقت الذي كان عدد سكان اسبانيا ثمانية ملايين قاموا بعملية أشبه بالانتحار، عندما أخرجوا في فترة أشهر باكبر حماقة تاريخية ضاربة، تحت قانون عام 1609 م في عهد الملك (فيليب الثالث) بطرد ثلاثة ملايين مسلم، يمثلون القوة العاملة الاقتصادية المثقفة في البلد، رمت الامبراطورية الاسبانية الى قرون في قائمة المتسكعين، في مؤخرة القافلة الأوربية والحجرة الخلفية المظلمة منها (مثل المستودع والكاراج الخلفي)، ولكن التعصب والحماقة أعيت من يداويها؟
إن مدينة صغيرة من حجم مدينة (القامشلي) في الزاوية القصية من سوريا التي ولدت فيها كانت ترطن في أذني عشرة لغات ( العربي والكردي والتركي والارمني والآشوري والارامي والسرياني، وتطرب فيها بألحان من ثلاث ثقافات؛ الكردية والعربية والتركية، وتتعايش فيها ثلاث ديانات، ولليهود بيعة وحي خاص، ومن المسيحية وحدها توجد ستة فرق (سريان ـ كاثوليك ـ بروتستانت ـ آشوريون ـ أرمن) بما فيها الفرقة النسطورية المنقرضة (الكلدان) لكل منها مدرسة وكنيسة ولغة تعلم أبناءها فيها. هذه هي التعددية الفعلية في شهادة تاريخية صاعقة لمن كان له أذنان للسمع.
مراجع وهوامش:
(1) راجع كتاب (مصائر الفلسفة بين المسيحية والاسلام) ـ جورج طرابيشي ـ دار الساقي ـ ص 92 (2) نفس المصدر السابق ص 121 (3) نشر كامل البحث في مجلة الشبيجل الألمانية عدد 23 تاريخ 1 \ 6 \ 98 م، عن تاريخ محاكم التفتيش، وكمية اللهيب الذي استعر في أوربا، في مسلسل رعب جديد، تكشف أسراره اليوم، بعد أن سمح الفاتيكان للمؤرخين؛ بدخول المبنى السري القريب من الفاتيكان للاطلاع على 4500 ملف (4) هذا ماعبر عنه الرأسمالي (لي بتلر ـ LEE BUTLER ) في مقابلة لمجلة الشبيجل الألمانية (العدد 32 \ 1998 م ص: 138) الكاهن الأمريكي الأعظم للسلاح النووي والمسؤول العسكري الأول عن الاستراتيجية النووية الأمريكية الضاربة في الفترة السابقة الذي انتهت خدمته عام 1994 م عن تصرفهم حيال القيامة النووية بنفس منطق الشيوعي ستالين (5) تم كشف النقاب عن الاجرام الاسباني في القرن السادس عشر على يد العديدين من الباحثين المعاصرين ونشرت مجلة الشبيجل الألمانية سلسلة من ثلاث حلقات بعنوان (نهب العالم الجديد) كما كتب المفكر الأمريكي (نعوم تشومسكي) كتاباً بعنوان 501 بمناسبة مرور خمسة قرون على اكتشاف امريكا بعنوان (النهب مستمر) ؟! كذلك قام استاذ السوربون (تزفتيان تودوروف) في كتابه (مسألة الآخر ـ اكتشاف امريكا) بعرض صورة مروعة لحجم الكارثة، قامت بترجمته دار سينا بواسطة بشير السباعي، وانصح القراء بالاطلاع عليه، وأنا شخصياً سبب لي صدمة روحية لعدة أيام بعد الاطلاع عليه، واعتبره وبعض كتب أخرى من الكتب التي عصرت قلبي مع الشعور بالاحباط عن معنى الجنس البشري وحجم الاجرام الذي يمارسه؟