في لحظة تأمل صامتة، أتوقف أمام غزة لا كخبر عابر، بل كوجع يسكن الضمير. هناك حيث لا شيء يشبه الحياة، سوى إصرار الناس على البقاء. غزة اليوم لا تجوع فقط، بل تحاصر وتعاقب، ويترك أبناؤها ليموتوا ببطء، والعالم من حولهم يدير وجهه بلا خجل.
المجاعة ليست كارثة طبيعية، إنها خيانة إنسانية مكتملة الأركان. الجوع لا يهبط من السماء كقدر محتوم، بل يصنع على موائد السياسة، يغذى بإعلامٍ متواطئ، ويؤبد بصمت دولي..
هناك، في غزة، لا يموت الناس لأن الطعام انتهى، بل لأن الرحمة غابت، والضمير اختار الغياب.
أي عقل بشري يمكنه أن يتصور طفلا ينهار جسده قبل أن يتعلم المشي؟ أي قلبٍ لا يرتجف حين يرى أما ترضِع طفلها من وهم لا من حليب؟ الجوع ليس ألما في الجسد فحسب، بل إهانة يومية لكرامة الإنسان، وإعلان فاضح عن اختلال الموازين في عالم تحكمه المصالح لا المبادئ.
هل سمعتم عن أطفال يأكلون أوراق الشجر؟ لا كحكاية قديمة، بل كواقع يومي. هل شاهدتم من قبل عيونا تحدق فيك لا تطلب منك شيئا سوى أن تراها؟ غزة لا تطلب عونا بقدر ما تصرخ لترى.
وجودها نفسه أصبح إزعاجا في نشرات الأخبار، وصورتها تحذف لأنها تربك الذوق العام وتفسد حفلات العشاء الهادئة في العواصم البعيدة.
الفلسفة علم المعنى، والإنسان هو سؤال المعنى الأول. في غزة، يولد هذا السؤال من رحم الفجيعة.. ما معنى أن تكون إنسانا في عالم يرى ولا يتحرك؟ ما جدوى الحضارة إذا كانت تقف عاجزة أمام صراخ طفل يتضور جوعا؟ إذا كانت الإنسانية لا تختبر إلا في لحظات الكارثة، فغزة مرآة كاشفة لكل هذا الزيف الكوني.
في بلاد تصنع فيها وجبات الكلاب بميزانيات تفوق ما يخصص لمخيمات اللاجئين، يصبح الحديث عن الأخلاق ترفا، وعن العدالة سذاجة. الإعلام يتحدث عن أزمات إنسانية كأنها نشرات الطقس، وينقل أرقام الموتى كإحصائيات باردة. لكن المجاعة ليست رقما، إنها انطفاء حياة، وانهيار حضارات، وموت ضمير.
وما بين فلسفة الموت وصوت الطائرات، ثمة من يقاوم بالجوع. نعم، في غزة حتى الجوع مقاومة. لأن البقاء على قيد الحياة هناك هو عصيان على الموت المجاني، وتمسك عنيد بكرامة لا تفهمها الأمم المتحدة، ولا تدركها المنظمات البيروقراطية التي توزع المساعدات بشروط سياسية.
من العبث أن نسأل: لماذا يصمت العالم؟ الصمت هنا ليس عجزا بل موقف السكوت عن الجريمة مشاركة فيها. إن من يملك أن يتكلم ويختار الصمت، يكون قد إختار صف الجلاد لا الضحية ومن يساوي بين المقتول والقاتل، يقتل الضحية مرة أخرى.
كل فلسفات الأخلاق، من سقراط إلى كانط تنهار عند عتبة المجاعة في غزة. لأن كل ما قيل عن الخير، الواجب، والكرامة الإنسانية يسحق تحت أقدام أطفال يبحثون عن فتات الخبز.
في غزة، لا نحتاج نظريات بل أفعالا لا نريد دموع التضامن، بل خطوات ملموسة. لا ننتظر بيانات الشجب، بل وقفة صادقة تنزع القناع عن الوجوه المصطنعة.
لكن، رغم كل هذا السواد، هناك نور. نعم، هناك نور. في عيون الأمهات وهن يحكمن لف الخبز اليابس على موائد العشاء، في ضحكة الأطفال وهم يركضون بين الركام، في تمسك العجائز بما تبقى من زيت الزيتون والكرامة.
غزة تعلم العالم دروس الصمود لا تدرس في جامعات الغرب ولاالشرق، هناك حيث تتكسر كل النظريات أمام عظمة من اختار أن يحيا بلا طعام ولا يفرط في الأرض.
وفي نهاية المطاف، نلجأ إلى من لا يخلف وعده، إلى من يرى دون كاميرا، ويعلم دون وكالة أنباء، ويحصي الأنات كما يحصي النجوم.
لن أطيل الحديث، فالألم أبلغ من أي مقال. سأختم بكلمة واحدة، لا بعدها كلام، الله يرى، الله يسمع، الله لا ينسى.
“وَلا تَحسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ ۚ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فيهِ الأَبصارُ”
سورة إبراهيم، الآية 42