كتب (تولستوي) الروائي والمفكر الروسي كتابه الشهير عن الحب والعنف مفككاً آليات (اللاعنف والعنف) انطلاقاً من قانون الحب والكراهية، فالسلام ينبع من الحب، والعنف يضرب بجذوره النفسية في تربة الكراهية الخبيثة. وذكر القرآن عيسى عليه السلام محفوفاً بالسلام يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً، وفي الوقت الذي كان المسيح يحث اتباعه على تدريب قاسي للنفس في وصية يصعب تطبيقها (أحبوا أعداءكم وأحسنوا الى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم) كان القرآن يذكر الصحابة وهم ينجحون في امتحان التخلص من الكراهية (ها أنتم هؤلاء تحبونهم ولا يحبونكم) فالمريض يعالج بالحب والرحمة لا بالقتل، والطبيب الذي يعالج مريضه بالقتل يتحول الى مجرم يرتدي معطفاً أبيضاً.
كشوفات علم النفس
يذكر (ابراهام ماسلو IBRAHAM MASLOW) من مدرسة علم النفس الانساني الحديث أن هرم الحاجيات عند الانسان يصعد من الحاجيات الفيزيولوجية الى قمة الهرم بتحقيق الذات من خلال قانون الحب، فبدون الحب تنطفيء بهجة الحياة، ويرى عالم النفس الأمريكي (براين تريسي) في أبحاثه حول (علم نفس النجاح) أن العواطف السلبية تشبه السيارة التي تمشي والفرامل (معلقة) تكبح الحركة، ويقرر أن الانسان يأتي الى هذه الحياة بدون مشاعر سلبية، وأن بالإمكان أن يعيش بدون مشاعر سلبية.
الانثروبولوجيا والبيولوجيا
يطرح عالم الانثروبولوجيا (مايكل كاريذرس MICHAEL CARRITHERS) في كتابه (لماذا يتفرد الانسان بالثقافة ؟ WHY HUMANS HAVE CULTURES ?) معقباً على سؤال سقراط القديم الذي ظل صداه يتردد عبر القرون: كيف ينبغي للمرء أن يحيا؟ بسؤال انثروبولوجي محوري: (يسأل علماء الانثروبولوجيا سؤالاً آخر وثيق الصلة : كيف نحيا معاً؟ ويفضي هذا السؤال الى مجموعة متنوعة من المشكلات ليس من نحن؟ بل كيف نترابط مع بعضنا البعض؟ (1)
وطرح الطبيب (جوزيف فاكانتي JOSEPH VACANTI) من جامعة بوسطن تدشين رائع لاستنبات الأعضاء (ORGAN CULTURE) انطلاقاً من تفاهم و (حب) عميق بين الخلايا يعتمد لغة كيمياوية سرية (2)
خطاب الشعر والتصوف
وقام (الصوفية) علماء نفس العالم القديم؛ بدراسة معمقة لفهم آلية الحب، وتدريب اتباعهم على اعتماد هذا الخطاب؛ لتحلو الحياة بين زوابع الكراهيات، وانحراف السياسة، وجو الحروب، وفساد المجتمع، واعتمد الشعراء في حيز لا يستهان به على توظيف القوافي لهذا المعنى السامي من حب الانسان لأخيه الانسان، واختصرت (رابعة العدوية) هذا المزيج من الشعر والتصوف في بيتين من الشعر عن معنى حب الله:
فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالـمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
حديث الفلسفة
ورأى الفيلسوف (باسكال) تناقضاً غير قابل للحل في كينونة الانسان بين الحب والحزن، والقداسة والنجاسة؛ فالإنسان ينبوع للحب وبالوعة للضلال والشك: (وطبيعة الانسان التي يمتزج فيها الملاك بالوحش امتزاجا شديدا تكرر التناقض بين العقل والجسد وتذكرنا بالكمير الذي زعمت الاساطير اليونانية أنه عنزة لها رأس أسد وذيل ثعبان.. يا لهذا الانسان من كمير !! يا له من بدعة ووحش وفوضى، وتناقض ومعجزة، هذا الحكم في كل شيء، ونموذج الغباء في الأرض، مستودع الحق، وبالوعة الضلال والشك، مفخرة الكون ونفايته، فمنذا الذي يحل لنا هذا اللغز المعقد ؟؟ وشقاء الانسان لغز آخر، فلم شقي الكون هذا الشقاء الطويل لينجب نوعا من الخليقة شديد الهشاشة في سعادته، كثير التعرض للألم في كل عصب، وللحزن في كل حب، وللموت في كل حياة؟)(3)
وعلق الفيلسوف الألماني (فردريك نيتشه) على انشاء وزارات الدفاع أنها خطاب واضح لسوء النية في الآخرين؛ فنحن هكذا قررنا أن جيراننا سيهاجموننا؛ فعلينا بالتترس والتحصن وبناء (وزارات الدفاع) والحروب عادة تأتي من أجواء متوترة في العلاقات من هذا النوع، آلية الدفاع المزدوج؛ فكل طرف يدافع عن نفسه، وكل طرف يتهم الآخر أنه هو الذي بدأ بالهجوم؟!!
التاريخ والحضارة وآليات الحوار
وتروي لنا قصة الاوديسة أن ملك (ايتيكا) أوديسيوس الضائع في رحلة العودة الى بيته أن حلاوة الحب كانت له عزاءً في عالم مليء بالقسوة والعنف. ولا يمكن أن يدور أي حوار وينتهي بنتيجة خصبة مثمرة في جو مشحون بالغل والكراهية؛ فالحب والاعتراف بالآخر وعدم تهميشه والغاءه قاعدة أساسية لإدارة دفة الحوار؛ ومنه فإن خطاب السياسي الأمريكي (صامويل هانتجتون) في صدام الحضارات ينطلق من أرضية مشبعة بالريبة والشك، والعنف الخبيث، والغاء الآخر ومركزية الذات.
لعله ينفعنا في يومياتنا أن نتبنى قواعد للحوار صارمة نربي أنفسنا عليها، في محاولة استنبات وسط الحب فنقول مخاطبين أنفسنا مع كل حوار قد يكون ساخناً:
أن أروض نفسي على قواعد للحوار صارمة:
1 ـ أن لا أنفعل مهما حدث.
2- أن لا أغلِّط في حق الآخر مهما تحدث (كلمة جارحة، استهزاء، سب، استخفاف).
3 ـ أن لا أرفع صوتي مهما تحدثت.
4 ـ أن أصغي للأخير قبل أن أجيب.
5 ـ الاستعداد للتراجع إذا تبين الخطأ.
6 ـ أن لا أخاف أمام التهديد.
7 ـ أن لا أكره أو أحقد على المختلف معي.
8 ـ الاستعداد للاعتذار حتى لو خامرني الشعور أنني لم أخطئ، احتراماً لشعور الآخر أنه أسيء إليه، فأحد تجليات العنف اللفظة السامة والتعبير الحاقد.
9 ـ أن أجعل جو الحديث ودياً بالابتسامة العذبة، والنكتة البريئة، والتعليق اللطيف.
10 ـ أن أذكِّر نفسي بالقواعد السابقة، ولا مانع من وضع الورقة أمامي حتى تنغرس في اللاوعي.
من هذه الحزمة من خيوط علمية وفضاءات معرفية شتى، من الأدب والدين وعلم النفس والانثروبولوجيا والبيولوجيا والتصوف والشعر والفلسفة والتاريخ وعلم الحضارات وآليات الحوار وديناميات التفكير، نرى بين أيدينا (تركيباً) وخارطة وجودية عن معنى الحب كشرط وتجلي أساسي للحياة.
الكلمة الطيبة والخبيثة وثمراتهما
إذا كان العنف شجرة خبيثة جذورها الكراهية وثمرتها الخوف، وجوها اعتماد الخطاب اللا انساني في اللفظة السامة وتعبيرات الوجه الحاقدة، وانتهاء باستخدام ادوات الأذية الفيزيائية، ابتداءً من الحجر والهراوة وانتهاءً بالصاروخ النووي؛ فإن شجرة السلام جذورها الحب وثمرتها (الأمن) الذي عبر عنه الخطاب الابراهيمي القديم (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم اولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
اعتبر القرآن أن فكرة العنف تنمو (كشجرة خبيثة) تماماً كما تنمو شجرة (الحب). كلا الشجرتين تمنحان ثماراً. شجرة العنف لها ثمار وشجرة الحب لها ثمار، شجرة العنف ثمرتها الخوف والتدمير، وشجرة الحب ثمرتها الأمن والسلامة، لذا اعتبر القرآن أن الكلمة الخبيثة تصبح شجرة ولكنها (تُجتث من جذورها) مالها من قرار؛ أما شجرة الكلمة الطيبة فأصلها ثابت وفرعها يضرب في السماء (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).
يظن بعض الناس أن الكلمة الخبيثة لا تنمو، ولكن القرآن ينص على أمر ملفت للنظر أن الكلمة الخبيثة تنمو وتصبح شجرة، وكذلك العنف فهو شجرة خبيثة جذورها الكراهية وثمرتها الخوف؛ ولكنها لا تقوى على الاستمرار في الحياة، لآن جذور الكراهية لا تحمل قوة الديمومة والاستمرار والصيانة الذاتية والتماسك الداخلي.
حالة التشظي الداخلي
لنحاول أن نقوم بتفكيك نفسي، ونطرح السؤال لماذا لا تقوى شجرة العنف على الاستمرار في الحياة؟ أولاً يعتبر القرآن أن الفكرة كائن حي ، فالحياة لازمة لا تنفك عن الأفكار. كل فكرة تولد مثل الجنين عندها طاقة الحياة والاستمرار فيه الى حين، ولكن الآية تلفت نظرنا الى أن الفكرة (الطيبة) تكسب الديمومة، في حين أن الفكرة (الخبيثة) تنمو الى حد لا تستطيع تجاوزه، ثم تهوي بالكامل في رحلة اندثار وتقوض كاملين؟ ولكن لماذا؟ هنا البيولوجيا والسيكولوجيا والفيزياء النووية تنفعنا في تفسير هذه الظاهرة.
نحن نعلم في الفيزياء النووية أن نويات العناصر المشعة غير مستقرة فيحصل نوع من الانحلال الداخلي؛ فتنهار النواة ومعه شخصية العنصر بالكامل، وهكذا يتحول العنصر المشع الى عنصر خامل. هذا الاضطراب الداخلي، وعدم التماسك، والتنافر بين عناصر النواة يجعلها تتفجر داخلياً باتجاه الانحلال والتقوض. مشكلةُ العنصر داخلياً حرمته الهدوء والراحة في رحلة الوجود، فلا ينعم بالهدوء مالم يتحول الى عنصر مستقر خامل.
والكراهية هي حالة تشظي داخلية؛ فالذي يكره لا ينتبه الى أنه يكره نفسه، والحب هي حالة اتحاد داخلي قبل كل شيء. الحب هو عملية اندماج، والكراهية هي عملية تشظي اجتماعي وتمزق عن الآخر، وتهميش له وانسحاب وارتداد على الذات.
مؤشرات البيولوجيا
الكراهية مرض والحب صحة. تشهد على ذلك البيولوجيا مع الكراهية يتولد التشنج والسوداوية، الريبة والشك، الحذر وكل مشتقات الترصد والكيد والتآمر ومحاولة التخلص من الآخر، أحيانا بالتصفية الجسدية.
وعند السقوط في شرك الانفعالات، والوقوع في قبضتها المريعة، تبدا كل مؤشرات البيولوجيا تروي نغماً حزيناً تنشده وتبكي له كل أعضاء الجسم. الضغط يرتفع. النبض يتسارع، المعدة تفرك، الأمعاء تمسك، المثانة تحتقن، القلب يتعب، والأوعية تتخم بمادة الادرينالين المادة السامة المؤذية، وكأنها الحجارة تسقط من حواف الجبال المحيطة بشارع أنيق نظيف. وبالطرف المقابل فحقنة من الحب في الجسم تمنحه الهدوء، وتهبه النشوة والاسترخاء، وشعور الأمن والسعادة وتحقق الذات.
والان لماذا اقترن الحب بالجنس؟
الحب أعظم من الجنس وممارسته، ولكن احد تجلياته جنسية. قد يكون الجنس بهيمي بدون حب، ويصبح انسانياً عندما يمتزج بعصارة الحب، فهذا مشعر التفريق بين ممارسة الحب عند الحيوان والانسان. الأرانب تمارس الجنس للتكاثر، والانسان تحكم اليوم في ضبط الانجاب؛ فهو يمارس الجنس مستقلاً عن الانجاب. وعندما تتصاعد دفعة الحب عند الانسان لا يشعر بقمته وتحقيق هدوء النفس مالم يمتزج بالطرف الآخر. فالعمل الجنسي هنا تعبير عن تجلي أعظم للحب، استخدم القرآن تعبيراً لطيفاً عنه (فلما تغشاها) (وجعل بينكم مودة) (هن لباس لكم).
نبي الاسلام لم يخجل أو يتحرج من مناقشة موضوع الجنس واعتبره في أحد أحاديثه أمراً يؤجر عليه الانسان عندما يضعه في الحلال.
تفضي ثمرة العلاقة الجنسية كأحد تجليات الحب الى الانجاب وحفظ النوع وتكرار الذات، في نسخة أصلية لا تقبل التزوير، من طرفي علاقة الحب، كشهادة توثيق دامغة عن عمق هذه العلاقة، تعمق العلاقة لاحقاً بترعرع الأطفال كثمرة حب وبناء شبكة علاقات اجتماعية. الحب إذاً نماء وثروة جديدة وتجدد في الحياة، والكراهية انعزال وتقوقع وانكماش وانتحار داخلي وفناء مبرمج.
الحب فيض داخلي
الحب يفيض من النفس بعد معالجة التشظي الداخلي، وتحقيق وحدة النفس داخلياً بتفجير حب الذات أولاً بالصلح الداخلي، من خلال رد الاعتبار للذات واحترامها والاعتراف بها. ولا يمكن أن نحب الآخرين قبل أن نحب أنفسنا. ولا يمكن أن نحترم الآخرين مالم نحترم أنفسنا، ونعترف بذواتنا ونتأملها في ضوء جديد، بل ولادة جديدة، فالإنسان بعد الولادة الرحمية أمامه ولادات أخرى، أشار القرآن اليها عندما قال (أو من كان ميتا فأحييناه) وفي الإنجيل لن تدخلوا الجنة حتى ترجعوا أطفالا؟ فهذا مؤشر الى أن النفس تقسو (فتصبح كالحجارة أو أشد قسوة) وأن النفس تمرض بمرض (فطال عليهم العمر) وتصل الى الموت بانقطاع (الصيرورة) فالحياة تدفق لا يتوقف للصيرورة، ولكن قد يتعفن الانسان فيموت قبل الموت، ويجب أن نفهم الضلال والشقاء كحالة نفسية من موت النفس في الحياة، بتعطيل منافذ الفهم كمصادر تغذية للروح، والايمان تلك النشوة من الأمل المشرق والنشوة العارمة من معايشة الحياة والناس والتاريخ.
الحب هو ذلك الترياق الذي يعيد الحيوية الى مفاصل الجسم كي يعيش مستقبِلاً لوميض ومؤشرات الحياة التي لا تنتهي.
طوق الحمامة عند ابن حزم
أعجب ما تركه لنا التراث الاسلامي مذكرات رجل فقيه دشن اتجاهاً عقلانياً بالكامل في الاندلس عرف بالمدرسة الظاهرية، ولكنه في كتابه (طوق الحمامة في الإلفة والإيلاف)(4) يتحدث بكل صراحة عن الجنس والحب، في حديث يتناول عشرات التجارب والقصص له شخصياً ولإصحابه، في تفكيك فلسفي وتحليل نفساني بديع مثير، مما يجعلنا نفهم صورة التقوى على نمط جديد من التوازن النفسي، وإشباع الحاجات، وضبط الغرائز بالتروية المعتدلة، وعدم السباحة في الهلوسات الجنسية، والمطاردة السرية للقصص الخليعة، وانتظار برامج المحطات الفضائية بعد منتصف الليل أو الاشتراك في برامج التشفير مدفوعة الثمن بالعملة الصعبة.
يذكر (ابن حزم) في كتابه قصة حب عجيبة عن رجل اندلسي هام بجاريته حباً وغضب منها يوماً فباعها لآخر (لنعذر ابن حزم فهكذا كانت الأيام وقتها) ثم شعر بعظم غلطته وشدة عشقه، فحاول استردادها بكل ما يملك، ويبدو أن الفتاة كانت غير عادية مما جعلت الثاني يعشقها حتى نقي العظم. فلما احتكما الى الوالي قدمهما الى تجربة مريعة هي الى حافة الموت أقرب!! فالوالي كان على شرف عظيم (تلة مرتفعة) فطلب من الأول رمز حبه وصدقه في التعلق بها أن يرمي نفسه من شاهق؟
فما كان منه الى أن رمى بنفسه من الشرف فهوى مترضرضاً لكنه نفد من الهلاك بقوة الحب، فطلب من الثاني أن يفعل كما فعل صاحبه فتردد فدفع بالجارية الى الأول.
الحب أعمى، وهناك حب من النظرة الأولى، وانجذاب ساحر، وقوة تعلق، ومعنى في الحياة، ونمو لا يعرف التوقف، وأحياناً يموت صاحبها كلفاً وعشقاً وهياماً بالهدف. بل صنف الثعالبي في كتابه درجات الحرب في 13 طبقة وابن سينا عالج شابا كاد أن يموت عشقا بطريقة عجيبة، والزواج هو العلاج لأنه دمج كيمياوي لعنصرين هما توأم الروح. فطوبى لمن حظي بزوجة تشاطره الحياة في عشق لا يذوي. ولله في خلقه شؤون .
هوامش ومراجع
(1) لماذا يتفرد الانسان بالثقافة ـ سلسلة عالم المعرفة ـ رقم 229 ـ تأليف مايكل كاريذرس ـ ترجمة شوقي جلال ـ ص 19 (2) مجلة الشبيجل الألمانية (DER SPIEGL) عدد 50 \ عام 97 ص 192 (3) باسكال ـ نوابغ الفكر الغربي ـ بقلم الدكتور نجيب بلدي ـ دار المعارف بمصر ص 102 (4) منشورات دار مكتبة الحياة ـ تقديم فاروق سعد..