آراءسياسة
أخر الأخبار

عرفات – الشرع.. رهانات فرنسا

سبق لباريس أن "أهلت" عرفات بفتح أبوابها له وتودّ للأمر أن يكون نموذجا مع الشرع

تنبهت باريس مبكرا إلى التحوّل السوري الكبير إثر سقوط نظام بشّار الأسد في 8 كانون الأول 2024. عجلت بإرسال مبعوثيها إلى دمشق في 17 من نفس الشهر، بعد أيام من يوم السقوط، وأعادت فتح السفارة الفرنسية ورفع العلم الفرنسي فوقها من دون أي شروط. بدت فرنسا في ورشتها السورية تُعد العدّة لاستئناف ما انقطع في علاقاتها مع سوريا.

يعجّ تاريخ العلاقة بين فرنسا ونظام الأسد، الأب والابن، بكثير من الحكايات الموجعة. توتَرت دائما تلك العلاقة وكأنها متناسلة من ذاكرة وجود فرنسا في سوريا في مرحلة ما قبل الاستقلال. وصل حدّ المواجهة إلى درجة اتهام باريس لدمشق بقتل سفيرها في بيروت، لويس دولامار، في أيلول 1981.

لكن القطيعة الكبرى حدثت حين وجّهت فرنسا برئاسة جاك شيراك الاتهام إلى نظام بشّار الأسد باغتيال صديق شيراك، رئيس وزراء لبنان السابق، رفيق الحريري عام 2005.

كان غضب باريس كبيرا وكان رئيسها وراء إقامة لجان التحقيق الدولية وإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بشأن تلك الجريمة. أعاد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لاحقا الوصل مع سوريا ودعا رئيسها لحضور احتفالات “14 تموز” 2008 على نحو شكّل قطيعة مفاجئة مع السياسة الشيراكية ضد دمشق.

لكن إثر اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، أعاد ساركوزي قطع تلك العلاقات عام 2012 وذهب إلى مطالبة الأسد بالتنحي.

من خلال دعوة الرئيس السوري أحمد الشرع لزيارة باريس تبدو فرنسا عائدة إلى سوريا من الأبواب العريضة. في 3 كانون الثاني الماضي، أي بعد أسابيع على سقوط النظام السابق، قام وزير خارجية فرنسا جان-نويل بارو ونظيرته الألمانية أنالينا بيربوك بزيارة دمشق والتقيا الشرع بتفويض من الاتحاد الاوروبي.

قادت فرنسا وألمانيا، وهما الدولتان المؤسستان للاتحاد الأوروبي، بعدها حملة داخل الاتحاد لرفع العقوبات عن سوريا. لكن فرنسا كانت تريد أكثر من ذلك.

بعد شهر من زيارة بارو لدمشق، قال بيان للرئاسة السورية في 5 شباط الماضي، إن الرئيس الشرع تلقى “اتصالاً هاتفياً من نظيره الفرنسي” الذي “هنّأه بتوليه منصب الرئاسة” ودعاه إلى “زيارة فرنسا في الأسابيع المقبلة”. وأبدى ماكرون، وفق البيان، “دعمه الكامل للمرحلة الانتقالية في سوريا”.

كانت حسابات الخصوم على وسائل التواصل الاجتماعي شكّكت آنذاك في ما صدر في البيان السوري عن دعوة تلقاها الشرع لزيارة باريس خصوصا أن البيان الفرنسي لم يشر إلى الأمر. غير أن ماكرون عاد وأكد، في 28 آذار الماضي، التطلّع إلى قيام “حكومة سورية تأخذ كل مكونات المجتمع السوري في الاعتبار”، مبديا الاستعداد “لمواصلة الحوار واستقبال الرئيس الانتقالي”.

ثم أعاد ماكرون الوصل مرة جديدة، في 28 آذار الماضي، من خلال قمّة رئاسية رعاها عن بعد جمعته والشرع ورؤساء لبنان وقبرص واليونان.

يلتحق ماكرون في دعوته الشرع إلى باريس بأصول وضعها شارل ديغول لسياسة فرنسا العربية. تميّزت مواقف باريس عن مواقف العواصم الغربية سواء في مقاربة القضية الفلسطينية أو في إيلاء اهتمام خاص بدول المنطقة. وجدت مقاربة ديغول اليميني، للمفارقة، أصداء لها في هذا المضمار لدى خصمه الرئيس الاشتراكي فرانسو ميتران.

ذهب إلى الكنيست الإسرائيلي عام 1982 ليدعو إلى إقامة دولة فلسطينية، ثم ذهب أبعد من ذلك عام 1989 في توجيه دعوة إلى الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والذي كانت تعتبره عواصم غربية إرهابيا، لزيارة باريس.

فتحت باريس أبوابها للشرع كما فتحتها سابقا لعرفات. التحقت عواصم غربية بالسابقة الفرنسية وصار عرفات متنقلا بسلاسة بينها. تريد فرنسا أن تقدم للرئيس السوري منصتها العريقة جسرا ومبررا لتوسيع الاعتراف الدولي بالتحوّل السوري الكبير.

تمسّكت باريس بدعوة الشرع لزيارتها على الرغم من أنباء الانتهاكات في منطقة “الساحل”، في آذار الماضي، وفي جرمانا وصحنايا وغيرها، في أيار الجاري، بما يؤكد دعم فرنسا للتحوّل السوري ومواكبة نكساته.

تتطلّع فرنسا إلى تأكيد تميّزها داخل سوريا. كانت طوّرت علاقاتها مع العراق وبدت وكأنها مع ما تمتلكه مع لبنان تودّ بسط حضورها داخل “هلال” كانت إيران تمسك بمفاصله. قبل أيام وبحضور الرئيس الشرع، وقّعت سوريا عقدا لمدة 30 عاما مع شركة “سي إم إيه سي جي إم” الفرنسية، لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية. تطمح فرنسا أن تكون سبّاقة داخل برامج إعادة الإعمار المقبلة وأن تكون جزءا من الدول الوازنة المؤثرة في مستقبل سوريا.

يحتاج الأمر إلى “تأهيل” الحكم الجديد وجعله مقبولا لدى العالم لاسيما الولايات المتحدة التي تربك سوريا بعقوباتها.

سبق لباريس أن “أهلت” عرفات بفتح أبوابها له وتودّ للأمر أن يكون نموذجا مع الشرع. يلوّح ماكرون في استقباله الرئيس السوري إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإشارة تستدرج قرارا ضروريا من واشنطن في هذا الشأن.

تلاقي تلك الإشارة إشارات أخرى من الرياض وعواصم أخرى سيزورها ترامب ويسمع وصاياها بنفس الاتجاه: “أفرجوا عن سوريا”.

https://anbaaexpress.ma/t0gnb

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى