آراءالشرق الأوسط
أخر الأخبار

ضمانات واشنطن لاستدامة تحالفاتها الإقليمية شرط الأداء مقابل الشراكة

هذا التحول يعكس وعيًا عميقًا بحاجات المنطقة الملحة إلى استقرار حقيقي ومستدام، مبني على معادلات سياسية واقتصادية واضحة

فيصل مرجاني

تتسم المرحلة الراهنة من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والخليج بتقاطع معقد بين المصالح الاستراتيجية والرهانات الأمنية، حيث تتبوأ إدارة الرئيس دونالد ترامب موقع القيادة في إعادة صياغة قواعد اللعبة الإقليمية.

من خلال تبني منهجية محكمة تقوم على مبدأ الأداء مقابل الشراكة، تسعى واشنطن إلى إرساء أُسس متينة لشراكات قابلة للقياس والتقييم، تعكس توجهًا عمليًا بعيدًا عن الخطابات الشكلية، وتؤسس لعلاقات ترتكز على الالتزام والنتائج الملموسة.

هذا التحول يعكس وعيًا عميقًا بحاجات المنطقة الملحة إلى استقرار حقيقي ومستدام، مبني على معادلات سياسية واقتصادية واضحة، تعيد تحديد أدوار الفاعلين الإقليميين وفق معايير واقعية ومرنة في آنٍ واحد.

فزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن تمثل نقطة انطلاق مركزية في هذا التحوّل؛ حيث جرى تثبيت معالم الرؤية الأمريكية الجديدة القائمة على تقاطع الأمن والتنمية، ودمج إسرائيل في معادلة الاستقرار الإقليمي ليس بوصفها استثناءً جيوسياسيًا، بل باعتبارها شريكًا فاعلًا في إنتاج المعادلة الأمنية، ومحورًا من محاور التوازن الجديد.

هذا التموقع ليس طارئًا، بل هو نتيجة مباشرة لنجاح إدارة ترامب السابقة والحالية في تأطير السلام ضمن مسار عقلاني بعيد عن الشروط الأيديولوجية، كما تم التعبير عنه من خلال الاتفاقيات الإبراهيمية التي شكّلت مقدمة عملية لإعادة بناء العلاقة بين إسرائيل والدول العربية.

في هذا الإطار، تندرج زيارة ترامب هذا الأسبوع إلى الخليج كامتداد عملي لهذا التحوّل. لقاؤه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض لم يكن تحرّكًا بروتوكوليًا، بل يحمل في طياته أبعادًا مركّبة تتصل بإعادة تأهيل المنظومة العربية التقليدية لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية الجديدة.

اللقاء مع القيادة السورية، في هذا السياق، يمثّل إشارة إلى انفتاح أمريكي مشروط على سوريا ضمن إطار واقعي لا يتجاهل التجاوزات، لكنه لا يغفل أيضًا أهمية إعادة دمج دمشق ضمن الحاضنة العربية من أجل تحجيم النفوذ الإيراني، وتفكيك البنى الرديفة التي تأسست خلال سنوات الحرب.

هذا التوجه انعكس أيضًا في إعادة النظر في منظومة العقوبات المفروضة على النظام السوري، ليس من باب المهادنة، بل من منطلق استراتيجي يفترض أن التفاوض مع الدولة أحيانًا أكثر نجاعة من ترك المجال مفتوحًا أمام الميليشيات والجماعات المسلحة التي تُحكم سيطرتها عبر الفوضى.

إن رفع بعض العقوبات عن سوريا يُفهم ضمن رؤية ترامب الواقعية التي تقوم على مفاضلة التكلفة والمردودية: إذا كان إدماج النظام يحدّ من تمدد إيران ويقلص نفوذ الجماعات الراديكالية، فإن ذلك يشكّل ربحًا صافياً للمعادلة الأمنية الإقليمية.

في المقابل، تُجسّد قطر نموذجًا فريدًا للتموضع الانتهازي داخل البنية الإقليمية، حيث تسعى إلى تضخيم حضورها خارج حدود وزنها الجيوسياسي والمؤسساتي، معتمدة على أدوات غير تقليدية تشمل الإنفاق الريعي المكثف، والتحكّم في شبكات الإعلام المؤدلَج، وتغذية امتدادات أيديولوجية عابرة للحدود ترتبط عضوياً بحركات الإسلام السياسي.

فهي تُروّج لنفسها كدولة داعمة للحوار والانفتاح، فيما تبني، في الواقع، منظومة خفية من التحالفات الراديكالية، وتحتضن رموز جماعات مثل حماس، وتُسخّر منصاتها الإعلامية لنشر سرديات تهدِّم مرتكزات السلام وتقوّض أسس الاستقرار الإقليمي.

هذه الازدواجية البنيوية لم تمرّ دون تدقيق صارم من قبل الرئيس دونالد ترامب، الذي لم يتعامل مع قطر كحليف طبيعي، بل كمصدر اضطراب يجب إخضاعه للمساءلة السياسية. ففي لقائه مع الأمير تميم، لم يُبدِ ترامب أي مجاملة دبلوماسية، بل وجّه رسائل مباشرة وقاطعة، تؤكد أن زمن الانفصام بين الخطاب والممارسة قد ولّى، وأن الشراكة مع واشنطن باتت مشروطة بسلوك منضبط، وولاء فعلي لمعادلة الأمن الجماعي، لا بمجرد تبنّي خطاب مزدوج أو تسويق صورة مزيّفة عن الاعتدال.

ورغم الثروات الطائلة التي تضخّها قطر في مشاريع النفوذ الناعم والمواقع الرمزية، فإن الإدارة الترامبية رفضت إخضاع علاقاتها معها لمنطق الريع السياسي، وأعادت ضبط البوصلة على أساس التماهي الاستراتيجي لا الانبهار بالمال. إذ أن ترامب يُدرك أن الفاعلين الحقيقيين هم من يتحملون مسؤولياتهم الأمنية بصدق، لا من يختبئون خلف الأقنعة الدبلوماسية.

ومن هذا المنطلق، خضعت قطر لمراقبة حثيثة، ونُبّهت إلى أن الشرق الأوسط الجديد لا يُصاغ في مراكز البروباغندا الإعلامية، بل في غرف القرار السيادي، وأن منطق اللعب على الحبال لن يجد له موطئ قدم في ظل مقاربة أمريكية حازمة، صلبة، ومحصّنة ضد التواطؤ الرمزي والتلاعب بالتحالفات.

الإدارة الترامبية لا تُبدي استعدادًا للتغاضي عن المقاربات الازدواجية التي تستثمر في الإرهاب من جهة وتدعو للتعاون من جهة أخرى. فقد برز في مباحثات الرئيس الأمريكي مع قادة الخليج تأكيد صارم على أن ملف الجماعات الراديكالية وعلى رأسها حماس، لم يعد يحتمل الحياد.

إنها جماعات تُستخدم كأدوات في حرب إيرانية غير نظامية ضد استقرار الدول العربية. وهنا تتقاطع رؤية ترامب الأمنية مع رؤيته الجيوسياسية؛ إذ أن الصراع مع إيران لا يُدار فقط من خلال العقوبات الاقتصادية، بل عبر تجفيف بيئة الوكلاء والأدوات التي تعتمد عليها طهران لتنفيذ استراتيجياتها التوسعية.

تُعيد الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب ترتيب أولويات التعامل مع إيران عبر نهج يتسم بالصرامة والواقعية، يجمع بين الضغط السياسي والدبلوماسي المكثف والعقوبات الاقتصادية الحازمة، مع إبقاء خيار الضربات العسكرية كإمكانية قائمة في حال تصاعدت التهديدات، لا سيما في ظل التنسيق المتزايد مع الحليف الإسرائيلي في مسار العمليات العسكرية في اليمن.

هذا النهج يتجاوز منطق المواجهة المباشرة أو التسويات غير المتكافئة، ليعتمد على احتواء شامل يهدف إلى تفكيك شبكات النفوذ الإيرانية في المنطقة عبر تجفيف مصادر التمويل والدعم التي تُستخدم في دعم الجماعات الراديكالية، والتي باتت الإدارة الأمريكية تعتبرها أدوات في الحرب غير النظامية التي تخوضها طهران ضد الاستقرار الإقليمي.

في هذا السياق، لم يعد هناك مجال للتسامح مع ازدواجية المواقف أو السياسات الملتوية، إذ أن الحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي يتطلب مواجهة حازمة وموحدة لإيران وشبكاتها، تستند إلى مزيج من الضغوط المتعددة الأبعاد والاستعداد الصارم لاستخدام القوة العسكرية إذا دعت الضرورة.

لقد تخلّى الرئيس دونالد ترامب عن منطق الغموض السياسي والدبلوماسي الذي شكّل لعقود سمة مميزة للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، معتمدًا هندسة بينية جديدة تُدار وفق وضوح الأهداف وانضباط السلوك، تربط الشراكة بالأداء الملموس. هذه المقاربة تقوم على مبدأ أساسي: “أعطِ لتأخذ، وكن شريكًا لا عبئًا”، حيث تُستبدل المجاملات الدبلوماسية بمواقف عملية، ويُقاس الالتزام بمدى القدرة على إنتاج نتائج حقيقية.

لم يعد المجال متاحًا للمناورة الرمزية أو للحياد السلبي؛ بل أصبح الانخراط في المعادلة الإقليمية الجديدة مشروطًا بالشفافية، وبالاستعداد لتحمّل كلفة الموقع السياسي.

في هذا الإطار، يعيد ترامب تعريف وظيفة التحالفات، ويُخضعها لمنطق الربح المشترك، حيث لا فضل إلا للفاعل المنضبط، ولا مكان إلا للشريك القادر على الالتزام بضرورات الأمن والاستقرار.

لقد أعاد ترامب ترتيب أولويات التعامل مع إيران بعيدًا عن منطق المواجهة المفتوحة أو الاتفاقات غير المتكافئة. فالمعادلة التي يطرحها تقوم على “الاحتواء الحازم” عبر الضغط المركّز والعزل السياسي والدبلوماسي، دون التورط في مغامرات عسكرية.

هذه المقاربة سمحت بتحقيق توازن دقيق بين الردع والمبادرة، وأسّست لنهج جديد يُعيد رسم خارطة الاصطفافات الإقليمية على أسس صلبة.

في المجمل، إن الرئيس ترامب لا يتعامل مع الشرق الأوسط بوصفه ملفًا ملحقًا ضمن أجندة السياسة الخارجية، بل كمسرح استراتيجي مركزي يستوجب تخطيطًا محكمًا وتحركات متدرجة.

فالرجل، بخلفيته الاقتصادية والسياسية، لا يؤمن بإضاعة الوقت في المفاوضات العقيمة، ولا يقبل بأن تُدار التحالفات من منطلق العاطفة أو الإيديولوجيا. بل يشتغل وفق هندسة سياسية دقيقة تجمع بين الواقعية الصلبة والبراغماتية الوظيفية، حيث تُبنى الشراكات على المصالح الواضحة والالتزامات القابلة للتنفيذ، ويتم استبعاد كل طرف يشتغل خارج منطق الشفافية والانسجام الاستراتيجي.

الرؤية الترامبية للسلم الإقليمي لا تقوم على التسويات الضعيفة، بل على بناء موازين قوى جديدة تُجبر الأطراف المترددة على الانخراط في منطق العقلنة السياسية، وتُعيد هندسة موقع إسرائيل ضمن منظومة الأمن الجماعي، ليس باعتبارها طرفًا استثنائيًا، بل كعنصر مركزي في منظومة استقرار أوسع.

هذا المنظور ينزع عن قضايا المنطقة طابعها الأسطوري، ويُعيدها إلى منطق السياسة، حيث كل فاعل مسؤول عن اختياراته، وكل تحالف رهين بصدقيته، وكل مشروع سلام يُبنى على الصرامة لا التنازل.

وفي هذا المشهد المعقد، يبرز الرئيس ترامب كقوة إقليمة صلبة تعيد هندسة المشهد لا عبر الخطابات، بل من خلال الفعل الجيوسياسي المركّب، والقرارات الاستباقية، والجرأة في كسر المألوف. الشرق الأوسط ما بعد هذه الجولة، لن يكون كما كان.

فـ دينامية ترامب لا تترك مجالًا للفراغ، ولا تقبل بالتهرّب من المسؤولية، وتفرض على الجميع أن يُعيدوا تعريف أدوارهم في ضوء معادلة أمريكية صارمة، واقعية، ومنفتحة على المستقبل.

https://anbaaexpress.ma/epfgf

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى