حين يرفع بعضهم شعار “تازة قبل غزة”، يظنون أنهم بذلك ينتصرون لمغربيتهم، أو أنهم يرممون ما تهدم من أزقة التنمية في مدينتهم المهمشة.
لكن الحقيقة أنهم لا يدركون أن هذا الشعار، في عمقه، ليس سوى تعبير بائس عن الانفصال العاطفي عن قضايا الأمة، وارتباك في إدراك جوهر التضامن الذي لا يتعارض مع الوطنية، بل يعمقها.
منذ عقود، لم يكن المغرب بحاجة لأن يثبت ولاءه لفلسطين عبر الشعارات، فقد كانت مواقفه راسخة كأركان البيت. حين قال الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه في خطاب تاريخي: “ما يصيب الفلسطيني يصيبني”، لم يكن يتحدث بوصفه رجل دولة فقط، بل كان يلخص عقيدة وطنية عميقة: أن فلسطين ليست عبئا ولا سلعة للمزايدة، بل جرح مشترك في جسد الأمة.
هذه المقولة الملكية لم تكن استثناء عاطفيا، بل جزءًا من نسق سياسي ثابت، ورؤية تجد امتدادها في العناية الخاصة التي يوليها الملك محمد السادس للقضية الفلسطينية، بصفته رئيس لجنة القدس وأمير المؤمنين، وقد جاء بلاغ الديوان الملكي بتاريخ 13 مارس 2023 ليجدد هذا الموقف بشكل لا لبس فيه: “موقف المغرب من القضية الفلسطينية لا رجعة فيه (…) وهي تعد من أولويات السياسة الخارجية لجلالة الملك، أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس (…) وضعها في مرتبة قضية الوحدة الترابية للمملكة”.
لا أحد ينكر أن تازة، وغيرها من المدن المهمشة، تعاني من اختلالات تنموية صارخة. لكن ربط هذه المعاناة بقضية فلسطين ليس سوى مغالطة منطقية تستعمل لتبرير الانسلاخ من الضمير الجمعي.
ما العلاقة بين تقاعس بعض المنتخبين المحليين أو غياب الاستثمار، وبين التضامن مع شعب يباد تحت القنابل؟
شعار “تازة قبل غزة” لا ينتصر لتازة، بل يخذلها مرتين: مرة حين يقايض آلامها بآلام شعب آخر، ومرة حين يبرر الفشل المحلي بإسكات الصوت المتضامن.
ثمة فرق شاسع بين من يطالب بالعدالة الاجتماعية داخل الوطن، ومن يحوّل هذا المطلب إلى ذريعة لصناعة العزلة الأخلاقية.
المغرب، كما بين التاريخ، لا ينظر إلى القضايا الكبرى بمنطق “إما.. أو”. لقد كان دائمًا يجمع بين الحرص على وحدته الترابية، والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، بلا نفاق، ولا استعراض إعلامي. تازة لا تعارض غزة، بل تكملها، إذا نظرنا للأمور من زاوية إنسانية وحضارية.
كلاهما ضحية اختلالات كبرى، تستدعي وعيا شاملا لا اختزالًا فجا لا نحتاج لمن يذكرنا أن التنمية حق مشروع، لكننا نحتاج لمن يذكر أن كرامتنا لا تكتمل إلا بانتصار القيم العليا.
“تازة قبل غزة” هو شعار يعكس انغلاقا فكريا أكثر مما يعبر عن رؤية واقعية. من قال إن القلب لا يتسع للمدينتين معا؟
من قال إن العدل في الداخل يستوجب الظلم تجاه الآخر؟ ومن قال إن المغرب، الذي ظل يحمي القدس بصندوق بيت مالها، يحتاج إلى من يلقنه دروس السيادة؟ في النهاية، من لا يرى في غزة مرآة للكرامة، لن يرى في تازة سوى ظلا باهتا لذاته المتخبطة.
فالمغرب لم يكن يوما على هامش قضايا أمته، بل كان دائما في الصدارة، يدفع في صمت ويؤمن بالفعل قبل القول، بل إن علاقة المغاربة بفلسطين ليست وليدة لحظة عابرة، بل موغلة في التاريخ، ويكفي أن باب المغاربة في القدس لا يزال شاهدا خالدا على هذا الارتباط الوجداني والروحي العميق، الذي يجمع المغرب، ملكا وشعبا، بفلسطين وقضيتها العادلة.