آراءمجتمع
أخر الأخبار

دور الصحافة “المَهْجَريَّة” في رعاية البطريق الاستوائي

ما نقوله يمتلكُ سيقاناً و كلماتُ غيرنا سيقانُ سندريلا

كان الصِحافي العربي يمتلِكُ قلماً فُسيفسائياً. قلمهُ كان قطاراً مصنوعاً من عددٍ لا نهائي من عربات الرُّكاب. كان يُنادي على أي إنسانٍ مشرقي للَّحاق به، تلبيةً لنداء اليقظة العقليَّة و الاستقلال العربيين.

هذا القلم الفُسيفسائي احتاجُ بدورهِ إلى لُغةٍ فخمة تكثُر فيها الأجراس و المجازات البلاغية.. اللغة العربية. هذا الاتحادُ الثُلاثي بين اليقظة، الاستقلال، و اللغة العربية؛ منذُ مائتان عام تقريباً، لم يكُن يسمح لمواطنين يعملون في مؤسسات ذواتِهم الخاصَّة، المُتضخِّمة في وسائل التواصل الاجتماعي، و القادرين على ضرب “الكيبورد” بمهارة، لحين الوصول إلى إحدى منصات الإعلام الرقمي من التواجد، حتى لو وجدت الشبكة العنكبوتية في ذلك الزمن.

“اللاجئون الصِحافيون” هؤلاء، و منهم أولئك الذين ذكرهم ميتشيل ستيفنز أحد أساتذة الإعلام الأمريكيين “الصِحافيون الهِواة، صِحافيو المزرعة”، يتعاملون مع وسائل الاتصال التقليدية، العنكبوتية، و الشبكية – السوشيال ميديا –  لهدفٍ وحيد اجاد الفرنسي جاك رانسيير التعبير عنه “ليثبتوا أنهم كائنات ناطقة هي جزء من عالم مشترك، لا حيوانات هائجة أو متوجِّعة”.

كان الشعراء، الأدباء، السياسيون الهواة، و الضُبَّاط الصِّغار، قد استخدموا قلم الصِحافي الفُسيفسائي كبيانو قومي رغم اختلاف المفاتيح الإيديولوجية. الشعراء و الأدباء أُزيحوا إلى المرتبة الثانية بعد الوصول إلى ضفة الاستقلال، و جرى تصنيفُهم سريعاً كعازفين محترفين لنوعية المفاتيح التي تُحبِّذُها السُّلطات العربية.

هروب الفسيفساء من القلم إلى الصحيفة

صحافةُ المهجر العربية بدأت لبنانية. أطلقها إمام النهضة الصحفية رزق الله الحلبي في الأستانة، عام 1855م بمدفعية صحيفة “مرآة الأحوال”.

بعد ذلك التاريخ احتلت هذه الصحافة باريس، بوينس إيرس، نيويورك، وما يعجِبُك من عواصم. كانت شجرةُ الأرز “اللوغو” المعنوي لصحافة العرب “المَهْجَريَّة”.

الصحافةُ اللبنانية التي بقيت في المشرق العربي، استولى عليها الطابِعُ المَهْجَري بدورِها. السبب، إنَّهُ و بعد الاستقلال العربي الذي أُنجِز قبل سبعين عاماً تقريباً كمعدَّلٍ وسطي في معظم الدول العربية، بدأت مشاكل الإدارة السياسية و التنموية، و شهية أنظمة الحكم إلى موالين و المعارضين إلى ثورةٍ مُضادة.

هذه الشهية القطرية كانت تحتاج إلى مَعِدَة قومية لهضمها. كان لبنان فُسيفساء سياسي، يسبح في مضيق جبل طارق و يتمتعُ بسمرة الخليج العربي. الراحل محمد حسنين هيكل عبَّر عن ذلك و بما مفادُه بعد تصرُّفي فيه “الإعلام اللبناني كان مسرحاً لكلِّ مالا يمكنُ قوله داخل الدول العربية. كان مسرحاً للاحتكاك و الصوت العالي ثمَّ التسويات”.

إذاً، كانت الصحافة اللبنانية في المنطقة العربية مَهْجَريَّة الطبيعة.. للتيارات السياسية المُتصارعة أكثر من الأفراد، رغم أن المُفكِّر، الأديب، و الصِحافي العربي كفرد، استطاع الحصول على حصَّة أيضاً من رعاية هذه الطبيعة الأصيلة في الصحافة اللبنانية، و التي ربَّما أدَّت بالأنظمة العربية إلى إيجاد تسوية مع الصِحافي العربي – هو من يهمنا هنا – الذي رأى نفسه كسربٍ و غيرهُ أسرابٌ تُحلِّقُ في سراب.

القنوات الفضائية العربية بدورها، استطاعت و بواسطة الطبيعة المَهْجَريَّة للصحافة اللبنانية، أن تُسمِّر العيون العربية أمام محطاتِها. لنراهن جميعنا إنَّهُ لا توجد فضائية عربية قادِرة على الشُهرة الجماهيرية بدونِ لهجةٍ لبنانية.

الحرب العربية الباردة مطلع القرن الحادي و العشرين

سقوط الثوابت العربية في تسعينيات القرن الماضي، و التي كانت الحرب العراقية الكويتية نشرتها الضوئية، ضيَّقت عموماً البُعد المَهْجَري في الصحافة العربية عموماً.

سرَّعت هُجرة الأقلام العربية إلى وجهتين لا ثالث لهما، إمّا العودة الطوعية إلى بُلدان الأصل أو إلى أوروبا و عبر الأطلسي. إعلام الدول العربية بدأ يبحثُ بشكلٍ جاد لا قومي عن النقاء السُّلطوي، و شراء ولاء وسائل الإعلام العربية لسياساته القُطريَّة.

كانت السخونة السياسية، غير صالحة للصحافي العربي، ذلك الذي تعوَّد على السَّيْر الآمن على جليد القومية العربية كبطريقٍ يعيش في القطب الجنوبي. صحيحٌ إن قدميه ملتصقتين تقريباً بسبب المكابس الوطنية و الرافعات القومية، لكنهُ كان يستطيع أن يلعب دور الناصح.

هكذا نَدُرَ إيجاد من يتمتعون بالقُدرة الضرورية لِلعب دور الصِحافي، و الذي هو بحسب رؤية ميتشيل ستيفنز يجب أن يكون لديه الطموح لأن ” يلعب دور مُعلِّم و مُرشِد”.

كُبر الحُدبة الأطلسية الفاضح في ظهر السياسات العربية، ما بعد تسعينيات القرن الماضي، حوَّلت الصِحافي العربي إلى بطريقٍ استوائي. هذا المناخ الحار كان نتيجة سقوط الثوابت العربية، الحُدبة الخارجيَّة، و موجة القيظ البحثية التي هبَّت من الـ “Think Tanks” لتُعيد تخيُّل المنطقة العربية و الإنسان العربي. كان تسليم المهمة لبحَّاثة من جذورٍ عربيَّة، دور كبير في خفض قيمة الصحافي العربي.

اُعتُبِرت نتاجاتُه الفكرية في القُصاصات الصِحافية، عبارة عن حقائق مكسورة الظهر بـ المال السياسي، الولاء الإيديولوجي، و الشطحات الفكرية التي تُعاني من الفوت فلات المنهجي.

المُفارقة إنَّه و بتعبيرات آلفن توفلر أحد علماء المستقبليات الأمريكيين، وصف البحَّاثة العرب بـ “جامعيَّ معلومات”، أمّا وصفه “محارب ثقافي” فأنا أجدُه مناسب جداً للصحافي العربي. هذا دفع الصحافي العربي ذو الطبيعة المَهْجَريَّة، إلى بيع تأجيري إن صحَّت اللفظة لقلمه للمال السياسي، و للحصول على الشُهرة الأطلسية إن أمكن.

صحافة المهجر ضرورة لا خيار

ما يعرف بـ “الربيع العربي” أبرز ملامح التغييرات السياسية العربية في العقدين الأوَّلين من القرن الحادي و العشرين.

أحلام اليقظة الإصلاحية التي عبَّرت عنها منظمات المجتمع المدني، الريح الجيواستراتيجية للقوى العالمية، و ضمور الهويات الوطنية، جعل الصحافي العربي ذو الصوت البديل و بأفضل التفسيرات لنتاجاته عُرضة للتشكيك، إمّا اتهامهُ بأنَّه يُضمر نوايا سياسية خفيَّة و إمّا إنَّهُ يُمارس الحُمق التنظيري، ولا يعدو كونه سوى واحدٍ من العُمَّل الصُّفر الذين لا ينضمون إلى الإضراب العُمَّالي. أي إنَّهُ يُشارك بفمه لا بقلمِه.

انضمام القوى الإقليمية الوازنة في الشرق الأوسط إلى القوى العالمية، خاصَّة تلك التي لديها ماضٍ استعماري في المنطقة العربية، و حاضر عقائدي مذهبي يؤثَّر على السياسات العربية.. نعني هنا أنقرة و طهران تحديداً، أدَّى لامتلاء سوق السياسات العربية، بمنتجات التنظيرات الفكرية و الثقافية التي زَحَمَت (المواقع الإعلامية الرقمية، قنوات اليوتيوب، البودكاست، و منصات السوشيال ميديا) لــ “التويسيين” و هو مصطلحٌ أطلقهُ برتولد بريشت على “المفكرين الذين يبيعون آرائهم”، علماً أن نسبة كبيرة منهم هم في الحقيقة “منتقين فكريين يستلّون أحداثاً راسخة في الذاكرة الجمعية من سياقاتٍ مختلفة فكرية، ثقافية، و تاريخية، موضِّبيها في سياقٍ مُناسب للحدث الآني، هو في جوهره هُراء، مستغلين الحاجة لوضع المعلومات الهائلة التي تقصف الدماغ العربي في سياقٍ تفسيري مفهوم”.

“الربيع العربي”، المدفعيَّة المذهبية، و الصراع العالمي من أجل إيجاد نظامٍ جديد، تجعل الحاجة شديدة إلى الصحافة العربية المَهْجَريَّة. السبب الأساس أنها تُعطي فُرصة للأصوات الصحافية العربية البديلة، بأن تقول مالا يمكن قوله في الإعلام العربي عموماً، و إعلامها الوطني بشكلٍ خاص.

الصحافة عموماً، حتى و إن بات لها قلبٌ رقمي، باتت و بعد الخبرة الرقمية للوعي العربي إن جاز التعبير، لا تستطيعُ عموماً أن تُمارِس الحُمق التنظيري، و أن تكون بوقاً ثميناً بدون أن تمتلك القُدرة على صوغ لغة طرحٍ رصينة تُبرِّر، لكن لا يمكن لها أن تحتكر التفسير.

الصحافةُ المَهْجَريَّة مثل بيروت تايمز، بسبب أعوامها الأربعين، تستطيعُ أن تكون صُّفارة إنذار، صحافة تفتحُ أبواب موضوعات جديدة، أرضاً لإنبات رأيٍ عربي غير مبتور بالصراعات الآنيَّة، جسراً بين المادة الخبرية الذي يخنقُ الصحافة عموماً و الرأي التفسيري، و بالتالي حاضنة لـ “إلماعات فكرية” يمكن أن يطوِّرها بحاثَّة عرب مستقبليين..

تكون لديهم الجُرأة على استخدام رافعات عربية بدل مكابس الاقتباسات الغربية الرائعة، لأنها صادرة عن لِسانٍ غربي لا يعدو كونه “ذبابة جِدار” تدَّعي بأنها تعرِفُ كل شيء و تعلمُ نوايا الجميع.

الصحافة المَهْجَريَّة فُرصة لإرجاع البطريق الضال استوائياً إلى قطبٍ جنوبي، بدل أن يتوه في أقطابٍ أُخرى. باردة مالياً لكنها تُسبِّبُ ارتفاع درجة حرارة البيئة الإعلامية العربية.

https://anbaaexpress.ma/yvi54

مسار عبد المحسن راضي

كاتب صحافي وباحث عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى