دكتور/ حسن شايب دنقس
تابعت خلال الفترة الماضية العديد من اللقاءات الإعلامية للنخبة السياسية السودانية، تتحدث عن الراهن السياسي والأمني الذي تمر به البلاد، وقد كشفت لي هذه اللقاءات عن ضحالة فكر ما يسمى بالنخب السياسية – إلا من رحم ربي – فتناولهم وطرحهم لقضايا الدولة لا يتسق مع صفة النخبوية؛ فجُلّهم لا يفرّق ما بين الدولة والحكومة، ويعلون من رؤية أفكارهم وبرامجهم الحزبية على قيم وثوابت الرؤية الوطنية التي ينبغي الاتفاق عليها.
لا يعرف أغلبهم معنى الأمن القومي السوداني، ولا ما هي مهدداته، ولا حدوده، وهذه مجرد ملاحظات قليلة من كثير مما رصدته من خلال المتابعة. وعليه، يجب أن تكون هناك معايير ومقاييس لكوادر وقيادات التيارات السياسية، تضعها “استشارية الأمن القومي” التي يجب أن تكون حاضرة وفاعلة في بنية الدولة، لأن التحديات كثيرة، والحفاظ على أمننا القومي يتطلب وجودها الفعّال.
إن أزمة النخب السياسية، التي طالما كانت حديث مراكز التفكير السياسي وقاعات النقاش الوطني، تجلّت بشكل فاضح مع اندلاع الحرب؛ حيث وقفت معظمها موقف المتفرج المبرر، أو المتواطئ، في انتظار ترجيح كفة الجيش أو الميليشيا. هذا هو نمط تفكيرها، لذا فهي عاجزة عن الارتقاء إلى مستوى التحديات الوطنية، أو تقديم الحد الأدنى من المسؤولية التاريخية.
النخب السياسية في السودان، وعلى مدار عقود، ظلّت حبيسة الحسابات الذاتية، والولاءات الضيقة، والمزايدات الأيديولوجية، غير قادرة على بناء مشروع وطني جامع، أو تقديم رؤية استراتيجية تنهض بالدولة من حالة التمزق والتبعية، إلى فضاء السيادة والاستقرار.
ومع بداية تمرد الميليشيا، التي مارست أبشع صور التدمير والترويع في العاصمة والولايات، كان يُنتظر من النخب السياسية أن تنحاز بوضوح إلى معركة الكرامة، وأن تدافع عن سيادة الدولة ومؤسساتها الوطنية، وعلى رأسها القوات المسلحة. لكن المشهد كان مختلفًا؛ إذ انبرى عدد غير قليل من السياسيين في خطاب رمادي، يساوي أخلاقيًا بين الضحية والجلاد، أو في حالة من الصمت المريب الذي يصل حد التواطؤ. والبعض الآخر حاول توظيف الأزمة لتحقيق مكاسب سياسية رخيصة، متناسين أن البلاد على شفا هاوية.
هذا السلوك لا يعكس فقط عجزًا سياسيًا، بل يُعبّر عن أزمة عميقة في الوعي الوطني. فالنخبة التي تفشل في الانحياز إلى قضايا السيادة والكرامة، وتلك التي ترى في انهيار الدولة فرصة للمناورة أو التسلق، هي نخبة لا تستحق أن تكون في موقع القيادة أو التمثيل.
ولعل من سخرية الأقدار، أن الجيش – المؤسسة التي لطالما حوربت من قبل بعض هذه النخب تحت شعارات زائفة – هو من يقف اليوم كآخر جدار في وجه انهيار البلاد، في وقت تغيب فيه البوصلة الأخلاقية والسياسية عند من يُفترض أنهم الصفوة.
الحرب كشفت المعدن الحقيقي لكل القوى السياسية، ففي الوقت الذي اختارت فيه جموع من المواطنين الدفاع عن أحيائهم وأعراضهم، وقدم الجنود أرواحهم في سبيل الحفاظ على البلاد، كانت النخب السياسية تتصارع على طاولات الخارج، وتقدّم أوراق اعتمادها في مشاريع التسوية المشبوهة، دون إحساس بالدم الذي يسيل، أو الخراب الذي يعم. ومدينة بورتسودان شاهدة على ذلك، فقد رأيت العجب العجاب من هذه التيارات، التي للأسف تقتات من عزة وكرامة السودانيين.
معركة الكرامة التي يخوضها الجيش ليست فقط مواجهة عسكرية مع ميليشيا متمردة، بل هي أيضًا لحظة فرز وطني شامل، ومثلما تكشف المعارك عن الأبطال، فهي تعري كذلك الانتهازيين.
النخبة السياسية السودانية اليوم مطالبة بمراجعة جذرية: فإما أن تنهض إلى مستوى التحديات المصيرية، أو أن تترك مكانها لقوى وطنية جديدة، تتخلق في رحم المعاناة والميدان، وقادرة على ترجمة تضحيات الشعب إلى مشروع دولة حقيقية. فالوطن لا يحتمل مزيدًا من العبث.
* مدير مركز العاصمة للدراسات السياسية و الاستراتيجية
تعليق واحد