في ظل التحولات المتسارعة في المشهد السياسي الفلسطيني والإسرائيلي، ومع تعقد المسارات بين مفاوضات مجمدة وتصعيد عسكري متكرر، يبرز السؤال عن طبيعة التحول في بنية الصراع كأحد أكثر الأسئلة إلحاحا اليوم.
فالصراع الذي بدأ كنزاع على الأرض، سرعان ما تطور ليغدو مواجهة وجودية تتشابك فيها الروايات بالأساطير، والمشاريع بالدماء، والأرض بالهوية.
وبين دفات كتاب “تحولات بنية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني” (الصراع الثقافي نموذجا ) للدكتور الباحث الأكاديمي منصور أحمد أبو كريم، وما تطرحه دراسة “تطور مفهوم المقاومة في الفكر السياسي الوطني الفلسطيني – حركة فتح نموذجًا”، تنبثق أسئلة تستفز الفكر وتدفع نحو قراءة أكثر عمقا وتعقيدا للواقع الفلسطيني.
وسنقارب هذه التحولات من زوايا متعددة، وتستدعي إجابات لا تنتمي للجاهز، بل للحقيقة المرّة..
الدكتور منصور أبو كريم هو كاتب وباحث سياسي فلسطيني مختص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، له العديد من الكتب والدراسات. حاصل على درجة الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية من جامعة القاضي عياض بالمغرب، وماجستير في العلوم السياسية من جامعة الأزهر بغزة..
في هذا الحوار الحصري على أنباء إكسبريس، سيتحدث الدكتور أبو كريم عن محاولات إسرائيل حسم الصراع عبر خلق وقائع على الأرض وطمس الموروث الحضاري الفلسطيني، وكيف ساهمت الاستراتيجيات الثقافية الإسرائيلية في صياغة سردية بديلة تستهدف نفي الهوية الفلسطينية، وتكريس الآخر كمحتكر للتاريخ.
كما يناقش أثر عملية “طوفان الأقصى” في إعادة ترتيب أولويات الصراع، وإرباك المنظومة الأمنية الإسرائيلية، ومدى دقة حسابات حركة حماس في تقديرها لرد الفعل الإسرائيلي..
وغيرها من المحاور المفصلية التي نأمل أن تضيء جانبا من هذا الصراع المركب والمفتوح على احتمالات مؤلمة..
وإليكم نص الحوار
كيف تحوّل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفق منظوركم، من نزاع على الأرض إلى صراع وجودي على الهوية؟ وهل باتت “الهوية” أكثر خطورة من “الجغرافيا” في معادلة الصراع؟
بكل تأكيد هناك العديد من المؤشرات على تحول بنية الصراع من صراع على الأرض إلى صراع على هوية الأرض بعد انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين واليمين الديني المتطرف، الذي يسيطر على الحياة السياسية في إسرائيل منذ عقدين تقريبا.
وهذا ما أدى إلى فشل مسار التسوية كون أن قوى اليمين القومي واليمين الديني في إسرائيل لا تؤمن بخيار التسوية، أو مبدأ حل الدولتين، وتعمل على تقويض الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وخاصة حقه في قيام دولته المستقلة.
وبالتالي بات صراه الهوية هو من يحكم بنية الصراع، فنهاك تسابق إسرائيل على تغير هوية هذه الأرض من هوية عربية إسلامية مسيحية إلى هوية يهودية تلموديه من خلال تغير أسماء الشوارع والمدن، وسرقة الأكلات الملابس الفلسطينية ونسبتها للتراث الإسرائيلي، وهو ما جعل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الوقت الحالي صراع هوية.
في ظل محاولات إسرائيل حسم الصراع عبر خلق وقائع على الأرض، كيف يمكن للفلسطيني أن يحمي ذاكرته التاريخية من التشويه وطمس الموروث الحضاري؟
هناك العديد من المحاولات الفلسطينية والعربية لحماية التراث الفلسطيني من السرقة ولاندثار، منها تسجيل التراث الفلسطيني في المنظمات الدولية مثل اليونسكو، وتنظيم المعارض والمنديات الداخلية والخارجية لعرض هذا التراث والمحافظة عليه، تخصيص أيام لارتداء الملابس التراثية، استخدام المباني والمواقع التراثية كمقرات للمؤسسات الثقافية والفنية، وتحويلها لمكتبا عامة تجمع ما بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ما الذي جعل العقود الأخيرة تشهد تحوّلًا بنيويًا في شكل ومضمون الصراع، لدرجة بات فيها المشروع الصهيوني يسعى إلى تصفية الفلسطيني لا كمطالب سياسي، بل ككيان ثقافي وحضاري؟
الأسباب التي أدت إلى حدوث تحولات بنيوية كبيرة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تعود إلى انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، وزيادة حدة التطرف في المجتمع الإسرائيلي، هيمنة الأحزاب الدينية المتطرفة على الحياة السياسية في إسرائيل، وتراجع دور قوى اليسار، وخاصة حزب العمل بعد اغتيال إسحاق رابين في عام 1995.
فقد شهد المجتمع الإسرائيلي تحولات عميقة في بنيته المجتمعية والثقافية والفكرية، هو التحولات انعكست على مسار التسوية وعملية السلام، وساهمت في زيادة حدة المواجهة بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل وتحول الصراع من صراع سياسي إلى صراع هوية.
إلى أي مدى ساهمت الاستراتيجيات الثقافية الإسرائيلية في صياغة سردية بديلة، تستهدف نفي الهوية الفلسطينية وتكريس الآخر كمحتكر للتاريخ؟
مع حدوث تحول كبير في بنية المجتمع الإسرائيلي وانزياحه نحو اليمين القومي والديني، ترافق مع ذلك بروز سرية إسرائيلية متطرفة تحول نفي الهوية السياسية للشعب الفلسطيني، ظهر ذلك من خلال قانون القومية الإسرائيلي أو ما يعرف بقانون “يهودية إسرائيل”، الذي حدد لليهود فقط حق تقرير المصير على الأراضي الواقعة بين البحر والنهر (فلسطين التاريخية) في محاولة لنفي الهوية الوطنية الفلسطينية، ومنع قيام دولة فلسطينية.
لقد عملت الأحزاب والقوى المتطرفة في إسرائيل بزعامة حزب الليكود على تغييب الهوية السياسية والوطنية للشعب الفلسطيني، وطرح سردية متطرفة تقوم على أساس امتلاك حصري لليهود لتاريخ وتراث وحضارة هذه الأرض، وهو ما جعل صراع الهوية يكون حاضرًا بقوة خلال العقود الماضية.
حين يتحوّل الصراع إلى سؤال عن “من يملك الرواية”، ما هو دور المثقف الفلسطيني في مقاومة هذا التزييف؟ وهل يمكن مواجهة الاحتلال بالسرد والكتابة قبل السلاح؟
المثقف الفلسطيني الحقيقي هو أول من يقاوم وآخر من ينكسر، بمعني انه يقود التصدي لمحاولات تغييب الهوية السياسية والوطنية للشعب الفلسطيني، من خلال مقالاته ومؤلفاته التي تحاول فضح المساعي الإسرائيلية من جانب، وطرح سردية فلسطينية بديلة عن السردية الإسرائيلية المزيفة.
وبالتالي على المثقف الفلسطيني والعربي دور كبير في التصدي لمثل هذه الحملات المغرضة، التي تحاول طرح سردية إسرائيلية بديلة عن السردية الفلسطينية، من خلال التأكيد على عروبة هذه الأرض والتراث والتاريخ
كيف أعادت حركة فتح صياغة مفهوم المقاومة الفلسطينية، لتتحول من بندقية التحرير إلى مشروع نضالي متعدد الأبعاد يجمع بين الدبلوماسية والمقاطعة والكفاح الشعبي؟
لقد استخدمت حركة فتح البندقية في بداية انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في العام 1965 للتأكيد على هوية الشعب الفلسطيني السياسية والتاريخية، كرد على محاولات تغيب القضية الفلسطينية والتعامل مع المسألة الفلسطينية باعتبارها قضية إنسانية وليست قضية سياسية لشعب محتل، وقد نجحت الحركة في التأكيد على تثبيت الهوية السياسية للشعب الفلسطيني من خلال اعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية والجامعة العربية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، لكن مع حدوث تحولات كبيرة في بنية النظام الدولي عقب سقوط الاتحاد السوفيتي وبروز الولايات المتحدة كقطب دولي وحيد، بدأت الحركة تنتهج العمل السياسي والنضال السياسي والدبلوماسي والقانوني في الأمم المتحدة، وهو ما ساهم في ترسيخ مكانة فلسطين على الخريطة الدولية، من خلال العديد من القرارات الدولية والأممية والتي كان أخرها قبول فلسطين عضو في الأمم المتحدة، كسائر دول العالم، ما يعزز الهوية السياسية للشعب الفلسطيني في مواجهة محاولات إسرائيل تغيبها.
ما الذي جعل فتح، دون أيديولوجية صارمة، تبدو كمرآة لفسيفساء التيارات الفلسطينية؟ وهل كان ذلك مصدر قوة أم مدخلًا لتناقضات داخلية أثّرت على وحدة القرار الوطني؟
تمثل حركة فتح تيار عريض من الشارع الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، وعدم تبني أيديولوجية سياسية جامدة مثل باقي الفصائل والقوي السياسية الفلسطينية ساعد الحركة على انضمام أعداد كبيرة لها، مما جعلها الفصيل الأكبر شعبيا في المجتمع الفلسطيني. حركة فتح تمثل المجتمع الفلسطيني بكل تناقضاته وايجابياته، وهناك من يطلق عليها “قبيلة الشعب”، كونها تشبه الشعب الفلسطيني. تاريخيا كانت تضم حركة فتح كتيار عريض في الشارع الفلسطيني تيارات سياسية وفكرية عديدة، مثل التيار الإسلامي، واليساري والقومي، والبعثي، لكن كل هذه التيارات توحدت في هدف واحد وهو تحقيق مصالح الشعب الفلسطيني في قيام دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
في ظل التحولات الإقليمية والدولية الكبرى، من كامب ديفيد إلى أوسلو، كيف أثّرت البيئة الخارجية في صياغة خيارات المقاومة لدى منظمة التحرير وحركة فتح؟ وهل كانت تلك التحولات ضرورة أم تنازلًا؟
للأسف الشديد لعبت ومازالت تلعب التدخلات الإقليمية خاصة من القوى الإقليمية الرئيسية في الشرق الأوسط دورًا سلبيا في الساحة السياسية الفلسطينية، حيث تستخدم هذه القوى المال السياسي، وحاجة الفصائل القوى السياسية الفلسطينية للدعم المالي والسياسي لتنفيذ اجندة سياسية إقليمية تتعارض أحيانا مع المصالح العليا للشعب الفلسطيني.
حول تأثير التدخلات الخارجية وخاصة الإقليمية على حركة فتح، فهذا كان من الأمور المرفوضة لدى الحركة، فلم تقبل الحركة على مدار تاريخيها أن تكون ورقة في يد أحد الأنظمة العربية أو الإقليمية كما فعلت القوى السياسية الأخرى، التي أصبحت جزء من استراتيجية النظام السوري أو الإيراني، فقد عملت وقاتلت فتح من أجل القرار الوطني المستقل.
كيف يمكن اليوم، في ظل التراجع الرسمي العربي وتطبيع بعض الأنظمة، تفعيل المقاطعة كأداة استراتيجية ضمن مشروع مقاومة شاملة، تجعل من الاحتلال عبئًا لا يُحتمل بدلًا من واقع يُطبع؟
لا شك أن مواجهة إجراءات الاحتلال الإسرائيلي وسياساته تتطلب جهدًا عربيا واسلاميا بات غير موجود في الوقت الراهن، نظرًا لحدوث تحولات كبيرة في البيئة الإقليمية والعربية، ساهمت في عقد اتفاقيات سلام مجانية مع الاحتلال الإسرائيلي بدون ربط ذلك بأسس التسوية السياسية ومبادئ عملية السلام، مما صعب المهمة أكثر على الشعب الفلسطيني، وجعله يواجه الاحتلال الإسرائيلي بمفرده.
لكن هناك العديد من الجهود التي مازالت بتبذل من أجل مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتفعيل المقاطعة الاقتصادية والثقافية، وما يحدث من مظاهرات شعبية ودائمة كبيرة في المغرب وغيرها من الدول العربي والإسلامية دليل على استمرار دعم الشعوب العربية لحقوق الشعب الفلسطيني.
في ضوء عملية “طوفان الأقصى” التي أعادت ترتيب أولويات الصراع وأربكت المنظومة الأمنية الإسرائيلية، هل أخطأت حركة حماس في تقديرها للرد الإسرائيلي، أم أنها قرأت المعادلة بعيون المقاومة لا بحسابات السياسة؟ وهل كشفت العملية هشاشة الردع الإسرائيلي أم عمّقت الانقسام الفلسطيني في لحظة مفصلية؟
بات من الواضح أن حركة حماس عندما خططت لعملية السابع من أكتوبر لم تدرك حجم وطبيعة الرد الإسرائيلي المتوقع على مثل هذه العملية، فالحركة أخطأت حساباتها حول كلفة ردة الفعل الإسرائيلية، لذلك اعتقدت أنها بمكانها القيام بمثل هذه العملية وتحقيق نتائج سياسية وميدانية بدون حساب للعواقب والتداعيات، السياسية والإنسانية، لقد استخدمت إسرائيل العملية وصخرتها لتصفية الحساب المفتوح مع غزة، لذلك عملت على تدفيع المجتمع بكاملة الثمن، من خلال القتل والتدمير والتجويع.
لا شك أن العملية العسكرية عمقت من تحديات الأمن القومي الإسرائيلي بعد ما أظهرت عجز منظومة الأمن الإسرائيلية على حماية المستوطنين في مناطق غلاف غزة، كما انها ساهمت في تعزيز حالة الانقسامات الداخلية الفلسطينية، سواء لجهة استمرار حالة الصراع على السلطة بين حركتي فتح وحماس في ظل إصرار الأخيرة على التمسك بورقة غزة كورقة استراتيجية أو لجهة استمرار الانقسامات الثقافية والفكرية داخل الشارع الفلسطيني حول جدوى مثل هذه العمليات وتداعياتها على القضية الفلسطينية.