“إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر..”
لكن ماذا لو أراد الحياة رجل واحد، لا دولة ولا جماعة؟ رجل وحيد، نبت في تربة الفقر، وسقي بسياط السجون، فكبرت فيه شجرة الحكمة، وامتدت ظلالها على أمة بأكملها.
هذا النص الذي أكتبه ليس رثاء، بل صلاة، صلاة من إنسان إلى إنسان، من روح تنحني لأخرى مضت واقفة. “خوسيه ألبيرتو موخيكا كوردانو” لم يمت، بل اكتفى من الدور وغادر المسرح. وكأن وجوده لم يكن دورا سياسيا، بل تجربة روحية، كتبت بالحياة ومحيت بالموت…
كان الرجل الذي أطلق عليه لقب “pepe” بيبي، حين يخرج من كوخه الطيني، لا يعلق على صدره نياشين الثورة، ولا يرفع قبضته كالأبطال، بل يحمل معوله، يقلم الأشجار، ويسقي نباتاته كما يسقي الحكيم قلبه بالصمت.
وحين يسأله صحافي ما.. “هل تشعر بالفخر لأنك أفقر رئيس في العالم؟” كان يبتسم بتواضع من جاور المعنى: “أنا لست فقيرًا… الفقير هو من يحتاج الكثير”.
قالها ومشى، لا يلتفت. لأن الالتفات يسرق شيئا من الداخل، وكان موخيكا من أولئك الذين يخبئون كنوزهم في الصمت، في البساطة، في الكوخ العاري من الزينة.
أن تكون زعيما في هذا العصر يشبه أن تمشي على سلك معلق بين ناطحتين: تميل جهة فتسقط في الشعبوية، تميل الأخرى فتغرق في النخبوية. لكن موخيكا سار في الوسط، بعينين مغمضتين، وقلب مفتوح على المدى.
هل سمعتم عن زعيم يزرع زهوره بيده، يرفض القصر الرئاسي لأنه بلا معنى، يتبرع بمعظم راتبه لأنه لا يحتاجه؟ هل سمعتم عن رئيس ينام في سريرصنعه بنفسه، ويغسل ثيابه بيديه، ثم يشرع قوانين تعد سابقة في تاريخ بلده، دون أن يرفع صوته أو يستعرض إنجازه؟
لقد كان يهمس.. لكن العالم كله كان يسمع، كأن روحه كانت نسخة لاتينية من سيرة عمر بن الخطاب، صرامة في الحق، ورقة في العدل، وزهد يتوضأ بالماء البارد قبل أن يدخل محراب القرار.
لكنه لم يحمل سيفا، بل اكتفى بالكلمة، وبالسكين التي تقشر البطاطس، وبالوردة التي يزرعها كل صباح على شرفة المزرعة.
تأملت صورته يوم ودع المنصب: قميص بسيط، بنطال قديم، وابتسامة رجل تحرر من عبء المجد. وكأن الرئاسة كانت تبعده عن ذاته، وكان المنصب صحراء، لا بستانا.
وحين أتاه المرض، لم يتشبث بالحياة كما يفعل الساسة، لم يناد بالمستشفيات الأوروبية ولا بالأطباء الأمميين. قال ببساطة من عرف حدود الأشياء: “للمحارب حق في الراحة”. لم يقل: أنا زعيم. لم يقل: أنقذوني. بل نام كما ينام الفقراء، حين ترهقهم الشمس ويطمئنهم القمر.
ربما لم يكن موخيكا “رئيسا”، بل كان سؤالا يمشي.. سؤالا عن معنى الحكم، ومعنى المال، ومعنى البساطة. كان سؤالا يحرج النظام، والسلطة، والطمع. وحين مات، لم يمت صوت السؤال، بل كبر صداه.
في أمريكا اللاتينية، حيث الرؤساء غالبا ما يشبهون الطغاة، خرج بينهم رجل لا يشبههم. لا يشبه أحداً. حتى اسمه لم يعد لقبا، بل تحول إلى تعبير: أن تكون “موخيكا”، أي أن تمشي حافيا على سجادة الحكم، وأن تعلن ثورة بدون بندقية.
لقد رحل الرجل، نعم.. لكن لم يسقط. لأن من يعيش حياته واقفا، لا يسقط حين يموت، بل يتحول إلى فكرة، إلى نبض يقلق الظالمين، ويواسي البسطاء.
هكذا كان موخيكا: صورة الإنسان الذي اختار البساطة لا لعجز، بل لفهمٍ أعمق. كان كمن نظر إلى قمة الجبل، ثم قال: لا حاجة لي بالقمة، ما دمت أستطيع أن أزرع الشجرة في السفح.
في زمن تصنع فيه العظمة بالكاميرات والوعود، كان عظيما بصمته، بملامحه التي تتجعد دون أن تفقد نورها، وبقلبه الذي لم يرهقه التاريخ، بل اغتسل به.
وداعا يا بيبي، يا رفيق الحكمة.. لم تكن رئيسا لدولة، بل كنت رئيسا للمعنى.. لم ترفع راية، بل زرعت فينا بذرة.. أن نعيش ببساطة، وأن نحكم بضمير، وأن نرحل دون ضجيج.
لقد كنت فصلا نادرا في كتاب البشرية، وستبقى سطرا لا يمحى، في ذاكرة من لم يعودوا يثقون بالساسة.. لكنهم آمنوا، مرة واحدة، بإنسان، وهذه هي جوهرية الكينونة الوجودية التي غفل عنها الكثير من بني البشر.
لروحك السلام ياموخيكا..