آراءتقارير
أخر الأخبار

الكاتب البرتغاليّ خُوسّيه سَارَامَاغُو.. من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل

هاجمته الصهيونية العالمية، ونكّلت به، وطالته حِرَابُها، بعد تصريحاته المُنتقدة لإسرائيل..

يُعتبر الكاتب والروائي البرتغالي خوسّيه ساراماغو، ظاهرة فريدة قد لا تتكرر في عالم الأدب العالمي، ذلك أنه كان عليه تخطّي العديد من العقبات، ومواجهة الصّعاب منذ ولادته في أسرة مُعوزة، كانت تعاني من قلّة ذات اليد، وسوء الأحوال المالية، ما دفعه للعمل منذ صغر سنّه في عدّة مِهن متواضعة، حيث كان عاملاً في مصنعٍ للأقفال، وفي ورشٍ للميكانيكا، إلا أنه مع ذلك، لم يهجر حبّه الجامح للقراءة، وشغفه الكبير بالكتب، والعلم، والإطلاع، وبعده الإبداع.

وُلد خوسيه ساراماغو في 16 نوفمبر 1922، في بلدة ازيناغا البرتغالية الصغيرة، من أبٍ وجدٍّ مزارعيْن، وانتقلت الأسرة بعد ذلك للإقامة في العاصمة لشبونة، ولم يكن عمر ساراماغو يتجاوز العامين، ورحل ساراماغو عن عالمنا في 18 يونيو 2010، في جزيرة «لانثاروطي» الكنارية، عن عمر يناهز 87 عاماً.

رؤية واضحة، وبصِيرة ثاقبة، وريّاح التغيير

في إحدى روايات هذا الكاتب العصاميّ، التي نُشرت عام 2004، تحت عنوان «البصيرة» أو «بحث في الصفاء»، استقرأ الكاتب، حسب تصريح أرملته الكاتبة، والمُترجِمة الإسبانية بِيلاَرْ دِيلْ رِييو، إرهاصات وتنبّؤات رياح التغييرات، التي كانت قد هبّت، والثورات التي اندلعت في بعض البلدان العربية في السنوات الأخيرة.

ويندرج حَدْس الروائي البرتغالي في مجال رصد تنبؤات، واستقراءات مُستقبلية، لبعض الكتاب، والمفكرين، والمبدعين، من العرب، ومن الغربيين على حد سواء، (من بينهم المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة رحمه الله)، بخصوص ما عُرف، أو أُطلق عليه بـ «الربيع العربي»، الذي سرعان ما أضحىَ، في عُرْف، ونظر الكثيرين، خريفاً شاحباً، حزيناً، كئيباً، وفي بعض الحالات مُخيباً للآمال.

ويجدر بنا، والحـــالة هـــذه، أن نَسْتحْضِر، أو نُذكر، في هذا السياق، بما كانت قد صرّحتْ به أرملة ساراماغو، الحاصل على جائـــزة نوبل في الآداب عام 1998، حيث قالت: «إنّ زوجها كان قد تنبّأ، بالفعــــل، بهذه الأحداث التي شهدتها المنطـــقة العـــربية، في روايته المشار إليها أعلاه، التي تندرج ضمن ثلاثية تغـــوص بمهارة إبداعية فائقة، في أعماق الهوية البشـــرية، منها «مقال حول العمىَ» في 1995، وهو الكتاب الأول، التي استكملها بـ«كل الأسماء» فـــي 1998، وهو الكتـــاب الثاني، وأخيراً الثالث، وهو «مقال حول الصفاء» أو «البصيرة» في 2004.

تشير بيلار ديل رييو إلى أن الرواية، تروي لنا حكاية شعب قرر، بالإجماع، مقاطعة الانتخابات في البلاد، ما أشاع نوعاً من الهلع، والرعب، والتخوّفات لدى المسؤولين، حيث اعتُبِر هذا التصرّف، بمثابة شكلٍ من أشكال التحدي، والمواجهة، والعِصيان، أو إعلان، أو أمارات، أو إرهاصات تُنذر بقرب قيام الشعب بتمرّد عام على السلطة الحاكمة.

كما أن هناك فقرة، تشير إلى ما مفاده، ومعناه، أن المواطنين يظلون معتصمين لعدة أيام في الساحة الرئيسية، أو الميدان الكبير للمدينة، حيث يتمكنون، بالفعل، تحت ضغط المظاهرات، والاحتجاجات المتواصلة، من الإطاحة بالحاكم المُستبد – كما تصفه الرواية – وعندما ينتهي كل شيء، ويعود المتظاهرون إلى أعمالهم الاعتيادية، ومزاولة نشاطاتهم اليومية، يقررون، فيما بعد، تنظيم أنفسهم، ويبدأون – قبل كل شيء – بتنظيف المكان الذي كانوا مُعتصمين فيه خلال الاحتجاجات».

وتشير أرملة ساراماغو إلى أن ذلك، ما حدث بالضبط، أو ما يشبهه إلى حد بعيد، في مصرَ، وفي بعض البلدان العربية الأخرى، من العالم العربي، التي كانت قد طالتها رياحُ الغضب، وهبّت عليها أعاصير التغيير.

كان ساراماغو يعرف أنه لم تكن هناك أزمة اقتصادية حادة، إبانئذٍ، اجتاحت العالم، بقدر ما كانت هناك أزمة أخلاق، وسلوك، ومبادئ.

ساراماغو لم يكن قارئ طالع

وتؤكد هذه الكاتبة الإسبانية، ومترجمة أعمال خوسّيه ساراماغو من البرتغالية إلى لغة سيرفانتيس: «أن زوجها لم يكن قارئَ طالع، أو يتنبأ بالمستقبل، بل إنه كان مثقفاً، يعيش عصرَه، ويعيه جيداً، ويتفاعل مع أحداثه، والتطورات التي يشهدها بدون انقطاع، وبالتالي، فهو كان دائمَ الانشغال برصد عيوب العالم، ونواقصه، بالتأمل، وإعمال النظر بمجرياته» على حد تعبيرها.

وتضيف: «إنه كان مثقفاً، دائمَ التفكير في كل ما يحيط به، ويعايشه، مُمْعْناً النظرَ في العالم، ومتتبعاً لكل ما يعتريه من تغيرات، أو قصور».

والبشرية سوف تتأخر كثيراً، للتخلّص من هذه المُعضلات العويصة، والأزمات الحادّة، التي كانت تعصف بها في ذلك الوقت، حسب منظوره.

مواقف صائبة، ومغالطات

يرى الكاتب البرتغالي كَارْلُوسْ رِيياسْ، عميد جامعة «أبيرتا» البرتغالية، أن خوسّيه ساراماغو، أثار خلال حياته، غيرَ قليلٍ من الزوابع، والجَدل، حول العديد من القضايا المعاصرة، سياسيةً كانت، أم أدبية، أو فلسفية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو دينية، وإن كان قد أصاب في بعضها، إلا أن غيرَ قليلٍ منها، لم تخلُ من بعض الأباطيل، والمبالغات، والمغالطات، على صفحات الجرائد، والمجلات، والكتب، بدون طائل يُذكر.

ولعل روايته الشهيرة «العَمىَ»، التي نال بها، أو عنها، «جائزة نوبل في الآداب»، قد جعلتِ الأمورَ تدلهم أمام ناظريه، في بعض القضايا الدينية، والمشاغل السياسية المعاصرة، على الصعيديْن الأوربي، والعالمي.

وتجدر الإشارة، في الوقت نفسه، إلى أن ساراماغو، كانت له، من جهة أخرى، مواقف مشرفة، على الصعيد العربي، كموقفه الداعم لقضية فلسطين، وانتقاده لإسرائيل، بعد الممارسات المبالغ فيها، التي قامت بها ضد الفلسطينيين العزّل، والتنكيل بهم، آنذاك، في العديد من المناسبات.

وكان ساراماغو، قد قام، عام 2002، بزيارة لرام الله، متضامناً مع الفلسطينيين، أثناء الحصار الذي فرضته إسرائيل عليهم، بعد انتفاضة الأقصى، في ذلك الإبّان، والتقى فيها بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، حيث هاجمته الصهيونية العالمية، ونكّلت به، وطالته حِرَابُها، بعد تصريحاته المُنتقدة لإسرائيل.

كما أنه لم يكن يتفهّم مطالبَ المغرب المشروعة، والعادلة، في استكمال وحدته الترابية، واسترجاع أقاليمه الجنوبية في الصحراء، وكان عضواً فاعلاً في الحزب الشيوعي البرتغالي، كما أنه كان ناشطاً في مجال حقوق الإنسان، وندد بغزو العراق، وسواها من المواقف الأخرى، التي عبّر فيها عن التزامه كمثقف، يعيش عصره، ويتفاعل معه.

الهجرة إلى جزر الخالدات

يؤكد الباحث كَارْلُوسْ رِيياسْ، من جهة أخرى، على أنه عندما صدرتْ رواية ساراماغو «الإنجيل حسب يسوع المسيح» عام 1991، أثارت ضجة كبيرة، انقلبت إلى نقمة عارمة عليه، إذ يوجّه فيها الكاتبُ، انتقاداتٍ لاذعة للكنيسة الكاثوليكية، ما حدا به إلى التفكير في الاغتراب، والهجرة بصفة نهائية، من بلاده البرتغال، خاصة بعد أن قامت الحكومة البرتغالية، بحجز كتابه، واتهام رجال الدين في البرتغال، وفي الفاتيكان، له بالإساءة، والمساس بالتراث الديني، والرّوحي، للبرتغاليين.

ومنذ مغادرته البرتغال عام 1998، بدأ يُبدي نوعاً من الافتخار، والتباهي، بأصوله الأمازيغية – حسب رأيه – إذ كان يقول، في مختلف المناسبات، إن أجدادَه، ينحدرون من شمال إفريقيا، وذلك – حسب رواية الباحث الآنف الذكر – وعند مغادرته لبلده، انتقل ساراماغو للعيش في جزيرة «لانثاروطي»، في أرخبيل الخالدات، جزر الكناري، واستقر فيها بشكل دائم، حتى آخر أيام حياته، مولياً ظهرَه للغرب، ومُعانِقاً هذه الجزيرة الكنارية، المحاذية للسواحل المغربية، والضائعة في غياهب بحر الظلمات، والغارقة في متاهات المحيط الأطلسي الهادر.

الحب هو حصننا الوحيد

وخلال لقاء أجرته معه وكالة الأنباء الإسبانية “إيفي EFE”، الواسعة الانتشار دولياً، قبيل رحيله، نشرت بعضَ أقوال، ومأثورات ساراماغو، منها: «لقد آن الأوان للعواء، لأننا إذا انسقنا خلف القوى التي تهيمن علينا، فمن الممكن القول، إننا نستحق ما يحدث لنا».

وقال عن الموت، الذي كان يشعر بأنه بدأ يدنو منه، بعد أن استفحل فيه المرض العضال، الذي كان ينهش جسمَه: “الحبّ هو حصننا الوحيد أمام الموت، وهو عملية طبيعية جداً، إنه نوع من التلقائية، على وجه التقريب، أن أدخل إلى عالم اللاشيء، وأن أتحلل هناك”.

وكان ساراماغو، أديباً صادقاً في مشاعره، ومفكراً صريحاً في مزاجه، جريئاً في تصريحاته، كان يقول في هذا القبيل: «أنا أقول كل ما يخطر على بالي، في كل حين، فإذا كان وقعُه أمراً طيباً على الناس، فهذا شيء حَسَن جداً، وإذا لم ينل رضاهم، فأيضاً تشرفنا».

وبعد أن جاءه خبرُ فوزه بجائزة نوبل في الآداب العالمية، قال: «أتذكر أنني أحسستُ عندئذٍ بعزلةٍ تامة، وقلتُ مع نفسي، حسناً، لقد فزتُ بنوبل، ولكنني سرعان ما تساءلتُ بعد ذلك، وماذا بعد؟!، إنني أعرف جيداً، أنها جائزة رفيعة، إلاّ أنني أعلم كذلك، أنني أعيش في كوكب صغير، داخل نظام شمسي صغير، وفي واحدة من أصغر المجرات، في الكوْن، الذي يحتوي على ما ينيف على 5 مليار مجرّة، ومع ذلك، لا يعني ذلك أنني لم أشعر بالسعادة، عند حصولي على هذه الجائزة».

كان يقول: «لديّ طابع مزاجي كئيب، أنا إنسان لا أضحك بسهولة، ولا تسمع مني قهقهة، وإذا حدث ذلك، فلن أصدق نفسي، أنها صادرة عني». «يقولون إنني إنسان واجم، لا أبتسم إلا بالكاد، أنا أبتسم فقط، عندما يكون هناك داعٍ حقيقي لذلك».

“أنا مجرد كاتب، يقوم من خلال كتاباته، برفع حجرة، وجذب الانتباه إلى ما هو موجود أسفلها، وليس لي أيّ ذنب، إذا خرجتْ من تحتها، وحوش من حين لآخر”!.

https://anbaaexpress.ma/lhgj9

محمد الخطابي

د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي  كاتب وباحث ومترجم من المغرب عضو الاكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى