محمد بوفتاس
حين نتأمل حال العرب اليوم، يخيل إلينا أننا لا نحيا في زمننا، بل نحن سجناء زمن آخر. لم يعد الحاضر العربي مجرد لحظة زمنية نعيشها، بل تحول إلى متحف مفتوح للذكريات، وإلى ميدان تتجول فيه أطياف الماضي، تفرض هيمنتها الثقيلة على العقول والقلوب.
في كل نظرة إلى واقعنا، في كل قرار سياسي، في كل خطاب ثقافي، يكاد الماضي ينطق بدلاً عنا، ويتخذ القرارات بالنيابة عنا، كأننا فقدنا السيادة على أنفسنا وعلى مصائرنا.
لقد صار واضحًا بالنسبة لي أن العرب يعيشون اليوم في ماضٍ طويل لا ينتهي. ليس الماضي هنا تواصلاً طبيعياً مع الجذور، بل هو احتلال كامل للحاضر والمستقبل معًا. نعيش هزائمنا القديمة كأنها وقائع اليوم، نستدعي معارك اندثرت كأنها معاركنا الآنية، ونقيم طقوس الحزن والانتصار على أحداث ماتت منذ قرون.
بل إن كل محاولة لبناء حاضر مختلف، كل محاولة لابتكار فكرة جديدة أو اقتراح مشروع نهضوي، تجد في طريقها جدرانًا عالية من الممانعة باسم “الأصالة” و”الهوية” و”التراث”.
في رأيي، هذه الهيمنة الماضوية ليست بريئة. إنها شكل من أشكال الهروب من مسؤوليات اللحظة، وهروب من مغامرة المستقبل الذي يتطلب الجرأة والفكر النقدي والإبداع. نحن نتمسك بالماضي لأن الحاضر مرعب، والمستقبل مجهول، ولأن مغامرة الحرية أصعب بكثير من عبودية التقاليد.
غير أن ما لا يدركه الكثيرون أن الماضي، مهما مجّدناه، لا يستطيع أن يصنع لنا غدًا. بل إن الإقامة المستمرة فيه تحوّلنا إلى ظلال لما كنا عليه، إلى كيانات معلقة بين الحياة والموت.
أرفض، بكل وضوح، هذه الخضوع القاتل لسطوة الماضي. أرفض أن يُختزل وجودنا إلى إعادة تمثيل مشاهد مضت، وكأننا محكومون بأدوار لم نخترها. أرفض أن تتحول الثقافة العربية إلى طقوس بائدة تتكرر بلا معنى، أو أن تُصادر طاقات الإبداع بحجة الوفاء لتراثٍ لا يسمح لنا بالانعتاق.
لا أنكر أهمية الذاكرة الجماعية ولا التراث، لكنني أؤمن أن قيمتهما الحقيقية تكمن في قدرتهما على الإلهام لا على القيد. التراث الذي لا يسمح لنا بأن نحلم ونبتكر وننفتح، ليس تراثًا حيًا، بل قبرًا جماعيًا مفتوحًا.
إن الزمن الحقيقي لا يُقاس بالسنوات والأيام، بل بقدرتنا على صناعة المعنى. الزمن الذي لا يحمل مشروعًا، ولا رؤية، ولا أفقًا جديدًا، هو زمن ميت مهما استمر في الدوران. ولهذا أقول: نحن لم نتوقف عن العيش فحسب، بل توقفنا عن أن نحلم. وهذه هي الكارثة الكبرى.
لا خلاص لنا إلا بالخروج الجريء من أسر الماضي. لا مستقبل لشعب لا يمتلك الشجاعة ليعيد النظر في تاريخه، أن يتصالح مع ظلاله، ثم ينطلق حرًا نحو أفقه الخاص. علينا أن نكف عن اجترار مجد مضى، وأن نبدأ ببناء مجد جديد، مجدٍ لا يستمد شرعيته من موتى الأمس، بل من أحلام الأحياء اليوم.
إن الزمن العربي لن يتحرر إلا بتحرر العقل العربي من عبادة الماضي. وبدون ذلك، سيظل العرب يراوحون مكانهم، وسيبقى الزمن يدور من حولهم بينما هم غارقون في صمت القبور.
* كاتب صحفي وسيناريست مغربي