تفقد العلوم دقّتها كلّما افتقدنا الرابط الماقبلي والما بعدي والفجوة التي تشكل ممرات سرّية للمعنى المحتمل. فالاختصاص على أهميته يضاعف أزمة الجهل بالفجوة، أو الممر السّري نحو الفهم الأشمل، حيث هناك فقط تكمن الدّقة.
ويعتبر الفعل في الواقع مرتبة من مراتب الوعي به، لأنّ المغامرة بالفعل في الواقع تمنح يقظة للإنصات إلى نبضه والتقاط إشارات أكثر. فالحركة الجوهرية للنفس والواقع تمنحان فرصة أكبر لمعرفة أشمل. وكون العقل وعاء يتسع وينكمش، فبفعل الفارق بين اليقظة والجمود.
فالعبر-مناهجية في نهاية المطاف ليست اختصاصا، بل فنّا لعبور الاختصاصات، وقطع الممرات السرية واستكشاف الفجوات. وهي إذ تتجاوز الاختصاصات لا تتجاهلها، بل تستنزف ما تحبل به وتراكمه ضمن مقترب شمولي تتقاطع فيه مخرجات سائر العلوم.
وضعنا مفهوم العبر-مناهجية التطبيقية جريا على تقليد متعارف عليه في كل اختصاص تطبيقي، غايته إيجاد حلول عملية للأزمات التي تتخبط فيها البشرية، ومنها أسُّ الأزمات: أي التفكير والعقل والموقف من العالم، وهو ما يترتب عليه خراب البيئة والعمران.
فالعبر-مناهجية لا تقف عند استدعاء مفهوم يقع في درب طويل من المكابدة الإبستيمولوجية، بل هو نزعة وتطلع إلى أفق يتجاوز كل أشكال تبسيط الواقع.
يتحدث كثيرون عن التعقيد، حيث ارتبط الأمر بمفهوم (complexus) عند ادرغار موران، وهو في الحقيق إكمال لمهمّة كان نيتشه قد هزّ بها صرح النظرة التبسيطية للعالم.
وسيكون مفهوم التعقيد عمليا واضحا إذا قاربناه من جهة مفهوم حساب التعقيد الخواريزمي، حيث نستطيع قياس التعقيد.
بمقدار الزمن والذاكرة لإنجاز مهمة ما. لكن هل يعني تعقيد الواقع وما يلزم عنه من تعقيد النظرية بتعبير باساراب، يعني تعقيد الفهم؟ هنا سوء الفهم الكبير، حيث يسألني صديق وهو يحاورني: أليس الأمر في حاجة إلى مزيد من تبسيط الفكرة؟
أجل، إنّ تعقيد الواقع والنظرية يعني النظر إليهما باعتبار تداخل المعطيات والموارد، التوقف عند الممرات السرية والفجوات المظلمة، فالعبر-مناهجية ترفض النظر للواقع مبسّطا دون الأخذ بعين الاعتبار تداخل حقائقه، وتبقى مسألة الفهم غير مسألة التفهيم، فالفهم يتقيد بتعقد الخوازمات لكن التفهيم مسألة بيداغوجية تواصلية.
تضعنا العبر-مناهجية أمام وعي مختلف للمادة والروح، وتضعنا أمام وعي وفلسفة تندمج فيها الحالات الثلاث نحو اندماج خلاّق، بخلاف الوضعانية الساذجة التي انتهت إلى تبسيط العالم وتركت مساحات كبير من الفهم للمجهول.
تحتاج العبر-مناهجية لمزيد من الإسناد، بوصفها صرخة يتيمة، لكنها تعبّر عن خلاص العلوم، وتحقيق مستوى إيثيقي قوامه العدالة ومستوى إستيتيقي قوامه النظرة الهارمونية للأشياء، لأنّ جمالية العالم تنكشف أكثر عبر-مناهجيا، وهذا ما يبرر سبب صرختنا الأخيرة.
ثلاثة أمور استخلصت من لقائنا العبر-مناهجي الأخير:
– العبر-مناهجية التطبيقية
– العبر-مناهجية على طريق لاهوت التحرير
– الطفل عبر-مناهجي، إنما تسعى بيداغوجيا التعلم لتقويض نزعته العبر-مناهجية، بدل تطويرها..
كل ذلك يتطلب مزيدا من التوسع والنظر، سنواصل العمل على إنجازه في لقاءات أكثر ارتباطا بالمفاهيم المذكورة.
فلقد انتصرنا مادّيا في إعادة اكتشاف مادية المادة وروحها، كما نجحنا في ربط العبر-مناهجية بالتحرر والتحرير. فالبشرية اليوم تترنح كالديك المذبوح على طريق المعرفة، تتأمّل انهيارها وهي مشدوهة عاجزة عن الفعل، فلقد قادها الإغراق في التمنهج الواحدي غير العابر إلى شلل عام، فهي تتخبّط في مشاريع أيديولوجية فقدت جدواها ونظارتها، دخلت زمن التكرار.
وبالفعل، سيكون عدوّ العبر-مناهجية هم عبدة المنهج الوحيد، قادة القياسية، صبّاغي المفاهيم المستعملة “وفراقشة” الفكر والمعنى والمشاريع، العبر-مناهجية تتطلّب قابلية للتحرر والإبداع وشجاعة من أجل الوجود.
العبر-مناهجية هنا كعلاج ينتهي بتعزيز التسامح الحقيقي، التنسيب، السلام، المحبة، الإنسانية الحقّة وليست الزّائفة أو الممسرحة، وقبل ذلك كلّه، إنقاذ العقل من الحصر المنهجي.