آراءثقافةمجتمع
أخر الأخبار

الصحفیة والكاتبة التونسیة بشرى بن فاطمة.. فراغ یفیض بالمعنى: أنوثة تقاوم وفن یتكلم صمت غزة

كثير من الفنانين أعادوا تصميم رؤية الصرخة لادفار مونتش على وقع الصدمة وإيقاع الصمود وفزع متألم من مواقف العالم ولكن بعمق الفراغ كتقنية حيث حوّلوا الفضاء إلى دلالة عن غزة

في عالم الفن التشكيلي، حيث تلتقي الألوان والخطوط في رقعة لا نهائية من الاحتمالات، تُعدّ فكرة “الفراغ” من أبرز الأسئلة التي يتناولها الفنانون والنقاد على حد سواء.

إنها ليست مجرد مساحة فارغة بين الأشكال، بل عنصر جوهري يعكس الحضور والغياب، الوجود والعدم، في سياق فلسفي وفني معقد، الفراغ في الفن يشبه الصمت في القصيدة، إنه الجوهر الشفاف للفكرة، وانعكاس لخيالنا يمثل حكمة الصفاء، يظهر كمثل الريح: مراوغًا لا يُرى، لكنه محسوس، فالفراغ هو تعبير عن الحقيقة العميقة.

هذا التناول المعمق للفراغ نجده في أعمال عديدة، لاسيما في التجربة الفنية النسائية التي تتحدى الحدود التقليدية للوجود والهوية.

الصحفية والكاتبة التونسية بشرى بن فاطمة، التي تحمل شغفًا عميقا بالفنون التشكيلية وتبحث في تأثيرات الاستشراق على الفن العربي والغربي، تقدم لنا رؤى مبتكرة حول كيفية فهم وتوظيف الفراغ في الفن التشكيلي العربي.

من خلال أعمالها البحثية، مثل كتاب “تأثير الاستشراق في الحركة الفنية التشكيلية العربية والغربية”، وكتاباتها المستقبلية عن “مفاهيم الفراغ في التجربة التشكيلية النسائية العربية”، تعكس بشرى بن فاطمة مفاهيم فلسفية عميقة حول العلاقة بين الفراغ والوجود في الأعمال الفنية.

كما أن مشاركاتها في مشاريع بحثية مثل “الفيديو آرت وتأثيره على التجربة العربية والخليجية” تكشف عن سعيها الدؤوب لفهم أبعاد الفن وتأثيراته الثقافية والاجتماعية.

من خلال هذا الحوار، الحصري على أنباء إكسبريس نغوص في مفاهيم الفراغ التي تتعدى كونه مجرد عنصر فني، إلى أن يصبح لغة معبرة عن الهوية، والنضال، والتحدي، بل وحتى عن الفقدان والغياب في سياق الأزمات الكبرى مثل طوفان الأقصى وحرب غزة.

نناقش مع بشرى بن فاطمة كيف يمكن للفراغ أن يصبح رمزًا للأنوثة المقاومة، وكيف يمكن للفنانة العربية أن تعيد تشكيل حضورها في هذا الفضاء الفارغ، بما يتجاوز دور “الضحية” التقليدية.

في هذا السياق سنتناول الأسئلة الكبرى التي يثيرها كتابها، ونتساءل عن دور الفراغ في التعبير عن القضايا الراهنة، من الحرب إلى الهوية النسائية، ونعرض كيف يمكن للأعمال الفنية أن تتحول إلى لغة مقاومة تتحدى الصمت وتصرخ في وجه الظلم.

وإليكم نص الحوار:

كيف يتحول الفراغ في التجربة التشكيلية العربية من مجرد مساحة سلبية إلى عنصر فاعل في بناء المفهوم؟

الفراغ في اللوحة أو الفن التشكيلي بالعموم ليس مساحة سلبية ولا يمكن اعتباره كذلك لأنه عنصر أساسي في البناء وفي إثبات تحكّم الفنان في فضائه فمثله مثل الكتلة واللون ووجوده ينعكس على بقية العناصر، لذلك علينا في البداية أن نفسّر المعنى الأول للفراغ كعنصر بنيوي في العمل ومن ثمة تفكيك أهميته كمفهوم.

فالفراغ كمصطلح ليس مجرّد مساحة فارغة ولا فضاء متروكا ولا هو إسقاط على عناصر اللوحة كما أنه ليس مجرد تقنية أو أسلوب فحسب بل هو تصوّر هندسي رياضي فيزيائي فني وجمالي عبقري وكوني له أبعاده المتداخلة في التصورات المرئية وانعكاساتها الماورائية التي تؤسس باتزان مفاهيمها، والعلاقة المتينة بين الفنان والمتلقي والعمل الفني، فهو الفضاء المجسّد في تلك المساحة الفارغة والفسيحة التي تخدم فلسفة التكوين ومفاهيمه مع الطبيعة والوجود والفكرة وهو مساحة مهمة وعنصر رئيسي يوازن طبيعة الفكرة وأسلوب التعبير ومكانة الكتلة والشكل والمادة والألوان والحركة والتأثير.

إن الفراغ يعبّر عن وهم العمق في التركيب الحركي للمنجز التشكيلي ذلك الوهم الذي يتحوّل إلى حقيقة عند الإنجاز باعتبار أن التشكيل الأولي يُبني على ثنائية البعدين في خطي الطول والعرض أما خلق البعد الثالث والرابع فهي ابتكارات الحرفية في توزيع التشكيل وقدرة التطويع البعدي والابتكاري من خلال ما يثيره التشكيلي مع المفاهيم والأحاسيس والعوامل الزمكانية والظلال والانعكاسات والأضواء.

كيف ترى دور الفراغ في تشكيل المعنى في العمل الفني؟ وما هو الاتجاه الابتسمولوجي الذي انطلقت منه لتأليف كتابك؟

يعتبر الفراغ من المفاهيم المهمة والفاعلة والمؤثّرة في الفن التشكيلي وتصوّراته وفي تحديد عملية البناء والإنشاء الخاصة بالعمل ومداها الجمالي، ولا يمكن تخصيصه في تجربة دون أخرى ولا في مستوى دون آخر ولا في مرحلة على حساب أخرى، فهو ارتكاز التنفيذ وتمكّن عميق من المحتوى كفكرة ومن التصور كجماليات ومن تناسق اللون وهندسة الأفق البصري للمنجز الفني وكما يقول المهندس المعماري الأمريكي “فرانك لويد” “الفراغ هو متنفس الفن”، فهو العنصر الأساسي الذي تفرض قواعده الغوص في أبعادها ومحاكاة فضائها باختلاف الرؤية والمرحلة.

فهو ليس تملّكا بصريا كلاسيكيا أو حداثيا أو ما بعد حداثي بل هو تمكّن الطرح البصري بمفاهيمه الدلالية من صناعة البصمة “التكنيك التكويني” وجمالياته العميقة فالفراغ “يخيف الطبيعة كما كانت حيرة ودهشة أرسطو لأنه رأى فيه فلسفة وعمق وامتلاء، وفي الحقيقة بحثي الذي صدر عن دار المجمع الثقافي المصري “مفهوم الفراغ في التجربة التشكيلية المعاصرة للمرأة العربية الخيالي المنظور والواقع البصري”..

انطلق أوّلا كمقال أسبوعي عن الفراغ والتجريد من خلال رؤى كاندانسكي وبيير سولاج الذي اشتغل الفراغ بالبعد الضوئي بالأسود وفي البحث وقعت على تجربة الإيطالية ماريسا ميرز الفنانة الوحيدة التي قبلتها مجموعة آرت بوفيرا وقتها والتي تمرّدت في تشكيل مساحات الفراغ على تفاصيلها الملونة، وكانت عبقرية في تكوين بصمتها في تجهيز الفراغ وتشكيل رؤيتها ومفاهيمها في تطويعه..

فبين ثنايا البحث تعثّرت بالدهشة أو هي من تعثر بي ربما، تمسّكت بها وتبعت أثرها ولمعت فكرة البحث أكثر، وقد صادف وقتها إعلان مسابقة الشارقة للنقد الفني التي طرحت موضوع البحث “مفهوم الفراغ في الفن التشكيلي” وقتها أردت المشاركة في المسابقة، ولكن مهلة تسليم البحث تجاوزتني ففكرت في التوسع أكثر من النظري نحو التجريبي بالخصوص في رؤى المرأة الفنانة ومدى تجريبها وهذا لم يكن من باب التصنيف أو التمييز أو حتى الانصاف لم أفكر إلا في الفراغ والمفهوم لأن البحث قادني إلى التشكيليات بعد كل لحظة بحث عن تجربة أجد تجربة عربية نسائية لها مداها العالمي أذكر، زها حديد، سامية حلبي، دوريس بيطار، فاطمة لوتاه، نادية كعبي، مها الملوح…

في ظل الكوارث الجماعية، مثل العدوان على غزة، كيف يمكن للفراغ أن يغدو لغة مقاومة أو صمتا صاخبا؟

هنا الفن هو اللغة وهو المقاومة بالأساس لأنه كسر الصمت وابتكر علاماته، فكان صدى له رنين وانتشار عالمي لأن الفن وحده نجح في تحويل المنع من المقاومة المباشرة إلى مقاومة رمزية أعادت احياء تفاصيل الرمز الفلسطيني في الفن مثل رمزية البطيخ التي كوّنها التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور في رؤاه الفنية التي صارت دلالة على العلم الفلسطيني أيقونة حنظلة وتماشيه مع المساحة، وهنا نجح الفراغ كمفهوم ومعنى ورمز ودلالة في تكثيف العناصر الأخرى في اللوحة لتحمل رسائلها، لأن الفراغ تقنية بصرية تعكس العمق والمفهوم الإيهام والحقيقة بما يعكس فكرة الصمت المليء بالتعبير في مأتاه الأولي، لذلك مثلا كثير من الفنانين أعادوا تصميم رؤية الصرخة لادفار مونتش على وقع الصدمة وإيقاع الصمود وفزع متألم من مواقف العالم ولكن بعمق الفراغ كتقنية حيث حوّلوا الفضاء إلى دلالة عن غزة.

في ظل ما وقع من عدوان اعتمد فنانون على عنصر الفراغ كمفهوم فرغم أنه في عموم الواقع التعريفي له كمصطلح، يعبّر لغويا عن اللافعل أو اللاشي اللامادة ما بين الحركة والجمود، مثل وقت فراغ أو مكان فارغ أو فارغ الصبر، بمعنى اللاتحمّل واللاطاقة في الاستمرار في تحمّل الفعل، هذا في العموم والاعتيادي والطبيعي ولكنه في الفن تحوّل إلى لغة امتلاء مشحونة تدل على البدإ في الاشتغال والتحرك نحو الفعل.

كيف انعكس العدوان على غزة في الأعمال التشكيلية العربية، لا سيما في تجارب الفنانات وإلى أي مدى أسهم الفراغ كأداة تشكيلية في التعبير عن معاني الغياب، والفقد، والتشريد، والخذلان خلال زمن الحرب؟

ما حدث ويحدث في غزة من إبادة جماعية ومجازر وصور تصل البيوت وتحتل الشاشات ليس الا انتشالا وتشريد وايقاظ للضمائر التي لم تهدأ بعد من نزف جراحها التي تراكمت من العراق الى لبنان وسورية واليمن وليبيا والسودان.

فيأتي المشهد ومنذ العدوان حاملا الكثير من التساؤلات والتفاعلات خاصة مع تباين المواقف بين صامت ومحايد ومُجبر على السكوت ومُجبر على أن يُخرس عواطفه ومواقفه رغما عنه وبإرادته كي تستمر، حياته، مصالحه هنا أوهناك، وقد أخضع الفنان نفسه في الإطار الدائر في الصراع نحو الموقف واللاموقف التعبير والصمت بلغة ذكية واحساس شفاف وحضور حقيقي لذلك يمكن اعتبار أن مرحلة غزة وما حصل من عدوان له أثره البالغ البليغ في إعادة احياء الفن التشكيلي الفلسطيني بتنوعه من جديد ما حرّك المشهد العالمي الحر فنا على إيقاعه باعتماد الصورة النابعة منه والاحتفاظ بالأيقونة ونشرها وتفسيرها أصبح كل العالم يعرف تماما رمزية اللون ومعاني الرموز.

المرأة العربية لم تنفصل عن واقعها وأحداثه وعن عوالمها المشحونة بالإحساس والتعبير والحساسية والتعقيد والبساطة في سطحها المتذبذب وجوهرها العميق وهي تتعامل مع عناصر منجزها بهذا التصور من خلال ذاتها واختياراتها حدودها وانطلاقاتها التي أثبتتها من خلال تصورات الفراغ ومفاهيمه بأنواعه، الفراغ داخل اللوحة كان عبور من الواقع إلى الذات ومن الذات الى العالم لذلك كان التكنيك حاملا للمعنى والرمز والمفهوم حمل فكرة كل ذلك بحرفية.

لأن المفهوم الفني في التوظيف اندمج مع الأسلوب وحمل عدّة أنواع تشكيلية واضحة، بارزة وخفيّة ترميزية، حسب كل موقف وعند كل صدمة تكاثفت مع التصعيد والدموية والوحشية، انصهرت مع الحواس، وتفرّعت نحو عدة تمشيات منها الفراغ الوهمي والإيهامي ما صمّمته الإمراتية فاطمة لوتاه، الفراغ الإيجابي والسلبي حسب ما ابتكرته اللبنانية آني كوركودجيان وهي تعيد قراءة الذات الانثوية من التصعيد الوحشي والحروب بجرأة عميقة ايروتيكية صادمة وفلسفية، الفراغ المسطّح، الفراغ الزخرفي ما ابتكرته هندسيا وحروفيا الفلسطينية السعودية دانا عورتاني، الفراغ العميق مثل تجريب الفلسطينية سامية حلبي، الفراغ المنظوري، الفراغ التبادلي، الفراغ العلوي والأمامي، الفراغ المحيط، الفراغ الابتكاري، الفراغ الضحل، الفراغ المتداخل الفوضوي، الفراغ اللامنطقي، الفراغ النافذ.

وهي كلها تصوّرات أبدعت فيها التشكيلية العربية لوصف عميق لرؤى الغياب والفقد والقتل والدموية والاقتلاع والابادة بحيث أثبتت الندية الفلسفية وتفوّقت بالحسية الذهنية.

برأيك، هل باتت الفنانة العربية اليوم قادرة على تقديم قراءة بصرية جديدة للنكبة المعاصرة عبر توظيف لغة الفراغ بدلاً من الخطاب المباشر؟

أعتقد بعد المواقف التي طغت على المشهد التشكيلي العربي القراءة البصرية الجديدة أصبحت ضرورية بشكل عام لان المواكبة والتعبير عن القضايا الإنسانية وبالخصوص العدوان على غزة، خاصة وأن الفن نجح في اكتساح المشهد المعبّر عن كل ذلك ولان الفن لا يقدّم خطاب مباشر بل يعتمد على الرموز على النبش على الأصل على الجمال على الروح الإنسانية الشفافة الصادقة المناصرة للحق في كل القضايا في العالم.

كيف تعبّر الفنانة العربية عن أنوثتها عبر الفراغ؟ وهل يمكن لهذا الفراغ أن يحتضن الهشاشة والقوة معًا؟

من خلال التناول البصري للفراغ في تجربة المرأة العربية يجب علينا أن نبرز التنوع الواضح والخفي في نفس الوقت، لأنه يوحي بالاختلاف في التجارب والتجريب أولا بين الجغرافيا العربية وثانيا بين الحديثة وما بعد الحداثة، وهنا تختلف نوعا ما انحيازات كل أسلوب واختلافات الطرح فيه.

ففي التعبير الحداثي بدا تعامل المرأة مع الفراغ كرؤية ممتدة وفلسفة محاكاة ذهنية وبحث داخلي روّضت فيه الفضاء باعتباره فضاءها الحر الرمزي والمبهم والغامض والجمالي، أما في التعبير المعاصر فالتعامل معه أثبتته كحقيقة حيوية التفعيل من خلال الأداء والتنصيب والانشاء والفتوغرافيا والفيديو آرت، لتقع المقارنة التي تذهب أبعد في رسم ملامح ذلك التناول البصري خاصة وأن فنون ما بعد الحداثة استفادت من مفاهيم الفراغ للخروج من نمطية الشكل ولابتكار أشكال جديدة داخل الفضاء.

فالتعبير البصري للمرأة العربية لم يخل من خلفيات نفسية واجتماعية لمست تطوّرها وأخرجتها من عزلتها وتقوقعها وتقليدها وقد اجتهدت لتلامس الجرأة التجريبية بعد أن استطاعت أن تكسر حواجز التردد من دخول عالم الفنون أولا بالدراسة الأكاديمية أو التطوير لقدراتها ومهاراتها وحرفيتها مستلهمة ذاتها من قيمها وانتمائها هويتها وعقدها وتحرّرها وثقتها.

فكل حديث عن تجربة عربية نسائية لا بد أن يخوض في خصوصيات بداياتها وخطواتها الأولى وإصرارها وصراعها الدائم مع المجتمع والعادات والتقاليد وقضيتها وكينونتها وكيانها الذي منه انطلقت لتعبّر بفنها حتى لو كانت خطواتها الأولى وبدايتها هادئة ورصينة مقلدة وسطحية متردّدة وإيحائية ورمزية.

ترى المرأة في الفراغ شبيها متناقضا ينتصر على مزاجها فهي لا تتعامل معه كأنه مجرد لا شيء بل بوصفه المتنفس والملاذ والمنفذ الذي تتحرّر أمامه من كل قيود المنع والأمر خاصة وأنها حين تعبّر لا تكون مجبرة على ملء المسطحات وإشغال المتلقي بمجرد النظر بل بفتح منافذ الأبعاد والتفوق في هندساتها والتعمق فيها فالفراغ في التجربة لا يسيّرها بل هي التي تسيّره وفق قواعد طبيعتها واحتمالاتها الجمالية.

فعناصر الرمز في الفراغ المعبّر عن الأنوثة بأسلوب الفنانة تكمن في اعتماد اللون مثل التركيز على اللون الأحمر وتدرجاته ومزجه بالأبعاد وشحنه بالأسود مثلا أو التلطيخات البيضاء وبالخطوط في تشكل الفراغات تجريديا وفي الكتل والملامح والجسد بأحجامه والطبيعة وفي البناءات والهندسة في تفاصيل المرأة وعالمها في مراوغات الأسلوب وتحويل المشهد نحو السريالية والتعبيرية التجريدية ليكون مستوى الأحجام مع الفراغ حاملا لرؤى الظهور والإخفاء التمويه والتجلي فيما بينها كعناصر الارتكاز على تحديد أحجامها وتفاوتها بنقل حركة التواتر المتوتّرة الهادئة والصاخبة في سجل المواقف والانتماء أو من خلال الأداء والتركيب تجهيز الفراغ في العمل المعاصر مثل ربط العناصر والخامات  أو تفكيكها في التركيب الفني للمنجز حيث أن هندسة الشكل مهمة في التوظيف الفني للفكرة وتوافقاتها الحسية وانعكاس الظلال معها وانعكاس المشهد على الصورة وتفاصيلها المعنوية في الفضاء.

إن الفراغ ليس اللاشيء في تعبيرية المرأة الجمالي لأنه يحثّ العقل على التفكير والحواس على العبور نحو التجلي، فالفراغ هو أصل الصورة.

في سياق الحرب والقهر، هل يتحول الفراغ إلى مرآة للمرأة العربية تعيد من خلالها تعريف حضورها بعيدًا عن صورة “الضحية” التقليدية؟

يٌكسب الفراغ تجربة المرأة تحديات كبرى تتناقض مع صخب حضورها في المجتمع بشرقيته وعقلياته الذكورية المتفاوتة حسب الأمكنة والموروث وحسب مخلّفات التماثل مع الواقع وانصياعها فيه ومكتسبها أيضا فيه والخيال المتناثر مع الأمل المُتاح والمرصود والمنتظر ومدى جراتها في طرح أفكارها بصريا والإيمان بذاتها وبالتالي التعبير عنها من خلال بقية القضايا المطروحة فهي تفكّك تلك العناصر في ذلك الفراغ وكأنها به تكتسب التجربة والابتكار والخلق فالبحث في امتداد الفراغ من الكتل وصخبها وانفعالها المشحون هو الذي يميّز عنادها في ارتكازها على ذلك الفراغ.

إذ بين ما يُرى وما لا يُرى يكمن تساؤل المفهوم فلا فرق بين العنصرين إلا بالتكامل الأسلوبي لولا الفراغ ما كان الاكتمال ولولا الاكتمال ما وجد الفراغ منفذا ليثبت ذاته في أسلوبها ولينعكس على مراياها لان المرأة تحمل أكثر من انعكاس في تعبيرها وأكثر من انتماء في تجليها الفني والبصري وحتى صورة الضحية التقليدية خرجت من تفاصيلها النمطية إلى تفاصيل أكثر عمق في التشبيه والتعبير والانصهار والتحرر.

هل يتقاطع مفهوم “الفراغ الأنثوي” مع “المنفى الداخلي” الذي تعيشه المرأة العربية في لحظات الانكسار الجمعي، كما في حرب غزة؟

قد تكون المقارنة جائزة من حيث المنفى كفكرة وحصار لذلك الصورة، لا تتقاطع باعتبار الجزئية وتمكنها من كسر حواجز التعبير والانطلاق نحو العالم إحداث ضجّة ما أن هناك من يُظلم في هذا العالم، وربما ما حصل في غزة برأيي هو صورة أخرى أبعد في منطلقاتها الحسية والذهنية الفردية والجماعية المحلية والإقليمية والدولية والإنسانية، وفي تجريب الفن الحسي أمام ما يحدث في غزة هو إعادة لملمة الذات والبحث عن أدوات لكسر الصمت والانعتاق والتجدد بآليات التعبير لتصل لتؤثّر كما قال سارتر “حالة حسيّة تقول سرّها في بؤر الوجود” وهذا القول في حد ذاته كاسر لكل الحواجز خالد بكل التفاصيل لأنه لا يقدم صورة عن الواقع بل ما بعد تلك الصورة وتأثيرها النفسي والاجتماعي والإنساني لذلك تبقى الصورة مهما تجاوزت الأحداث

ما الفرق بين توظيف الفراغ كعنصر جمالي في اللوحة، وبين استخدامه كرمز دلالي مرتبط بالقضية الفلسطينية؟

الرمز الدلالي في القضية الفلسطينية لا ينفي الجمال كعنصر حاضر في اللوحة لذلك دور الفراغ في التوظيف هو بالضرورة جمالي مهما كانت الدلالات حاضرة في حضورها في التعبير، والفرق هنا في حدة الإصرار على المعنى الإنساني لأننا هنا نخرج من اطر التقنية البصمة الأسلوب إلى المفهوم إلى حسيّاته ودرجة إيصال الرسالة التي تحيل إلى معناها الأساسي في الحق والحقوق.

وهنا على سبيل المثال في تجريب المرأة بصريا تشكيليا مع الفراغ للتعبير عن الأرض بالتمازج مع مفهوم الطبيعة تكون الأرض دلالة اكمال المعنى الحق والطبيعة تعبيرها والفراغ كثافتها بكل التفصيل، الأرض كمفهوم اتصال وتواصل مجال ومتّسع تتجلى فيه الخطوط والارتكازات مع العناصر والأحجام مع الملامح والكتل، الخطوط والترابط بينها ومجال النقاط وتكثيفها وحدود البؤر وتوسيعها خلقت التماس التفعيلي للحركة للدوران لمساحات التواصل مع الفكرة ومدى العناد بها، لأن الأرض انطلاقة للتمازج مع الذات والحضور في المساحة كعلاقة اندماج ومزج حركي حيوي تفرضه تناغمات الإيقاع الترتيبي للفكرة فالأرض عبّرت عنها بالمدى بخلفيات اللون بالإيهام والفوضى في تشكيل الألوان الترابية والحارة والألوان الباردة في سمك الخامة في النحت وتجويفاتها وفي فضاء العرض وحجم الخامات وطرق تجهيزها.

أما معنويا فتجسّد الفراغ في حالة الصفاء بين تجليات الذات وصوفية الروح في خلق خصب وحضور من اللاتكوين إلى التكوين من أساطير البعث إلى الخلق كلها توازن مع المفهوم الأول وتعرضه في تكوينات الفراغ التبادلي الإيجابي والسلبي، لتثير الفكرة الأساسية للحياة والموت وفي اكتمالاتها تحدّد الفراغ بضبط حضوره أو التضييق عليه كي لا ينفذ حسب الحواس والمزاج والفكرة، كما قدّمت الفلسطينية سامية حلبي عندما اعتمدت صورة الزيتون وعلامته لتعيد المتلقي إلى قريتها في فلسطين المحتلة.

ورؤية الفلسطينية بثينة ملحم في اعتماد الثوب القديم المطرّز وتشكيله بالدبابيس كدلالة الحصار والمعابر والتفتيش مبقّعة الأثواب بالقهوة والزعتر والتراب وهي رؤية مفصلية الدلالة في تكاملها مع المعنى مع فكرة عرب 48.

والفلسطينية الأمريكية ماري توما التي تعرّض معرضها لاعتداء من مطرفين لأنها عملت على فكرة القماش في معرضها “أرض أخرى”، علّقت أثواب في سقف قاعة المعرض متدلية إلى أسفل الأرض تحكي رحلة الشهداء وفكرة الأرض المسروقة.

هل تقع على عاتق الفنانة مسؤولية تحويل معاناة شعبها إلى رموز بصرية نابضة دون السقوط في فخ التقريرية أو التوظيف المباشر؟

هي مسؤولية فنية بدرجة أولى تخلق التفرّد التميّز والبصمة التي تخلق بدورها الاستثناء جماليا ومفهوميا لان الفنان الحقيقي يجب أن يحمل مشعل النور في إشغال الفكر بالفن لا في تقديم رسائل مباشرة لان ذلك ليس دور الفنان بالعموم والفنانة كنموذج وحالة هنا لن يكون هناك فن إذا ما لجأ الفنان إلى التوظيف المباشر، المعاناة بشكلها المباشر تنقلها الشاشات وأصبحت أقرب وأقرب ولكن هل التأثير كثيف على الموقف والانسان، دور الفن هنا هو تحويل تلك المعاناة إلى رسائل جمالية للعالم وهنا تفسير الجمالية يختلف عن الفهم  العامي للمصطلح، لو لم يكن الفن له قوة تعبيرية لما مُنعت سامية حلبي من تقديم معرض في الولايات المتحدة الامريكية ولما مُنعت أيضا عدنية شلبي من المشاركة في معرض فرنكفورت للكتاب.

المرأة التشكيلية تفسّر بصريا مفاهيمها العامة في حركة التشكيل وتفاعلها مع الفراغ كعنصر أساسي مندمج مع بقية العناصر بمعنى أنه حضور وليس إشكالية وبالتالي فهو مهم من حيث أنه يساعدها على حمل التعبير والتوغل أبعد في طرح رسائلها وأفكارها لتساعدها على التكامل معها تعبيرا عن الانتماء والهوية والحق والحرية.

https://anbaaexpress.ma/arlj3

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى