ثقافةمنوعات
أخر الأخبار

السابقون السابقون.. مضحة رفع المياه اختراع عربي أصيل

يقول الكاتب البريطاني المنصف باول فاليللي (Paul Valelli) عن المخترعين المسلمين: “من القهوة مروراً بنظام الثلاث وجبات اليومي وحتى الشيكات، أعطانا العالم الإسلامي العديد من الإبتكارات التي لا غني عن إستعمالها في حياتنا اليومية الآن”.

ومن تلك الاختراعات الرائعة كانت مضحة رفع المياه التي هي اختراع عربي أصيل وفي البداية كانت عبارة عن آلة من المعدن تدار بقوة الريح أو بواسطة حيوان يدور بحركة دائرية، وكان الهدف منها أن ترفع المياه من الآبار العميقة إلى أسطح الأرض، وكذلك كانت تستعمل في رفع المياه من منسوب النهر إذا كان منخفضاً إلى الأماكن العليا.

وصنعت مضحة رفع المياه بواسطة المخترع والعلامة بديع الزمان أَبو العز الجزري. (607هـ / 1210م) الذي يعد واحداً من عمالقة الهندسة في التاريخ، ويعتبره مؤرخ العلم جون فريلي مخترع من طراز فريد إذ ساهمت اختراعاته في فتح الباب لظهور كثير من الآلات التي لعبت دورا محوريا في الثورة الصناعية في أوروبا، والتي أصبحت فيما بعد عماد المدنيّة الحديثة.

فهذه المضخة على سبيل المثال كانت الفكرة الأساسية التي بنيت عليها جميع المضخات المتطورة في عصرنا الحاضر، بل والمحركات الآلية كلها ابتداء من المحرك البخاري الذي في القطار أو البواخر إلى محرك الاحتراق الداخلي الذي يعمل بالبنزين كما في السيارة والطائرة.

ويعتبر الجزري من أوائل من فكروا ونجحوا في صنع آلات ذاتية الحركة، تعمل من دون قوة دفع بشرية، وقد استخدم الجزري الماء المتدفق وسيلةً لتشغيل آلاته واختراعاته.

وقد احتوى كتابه الذي يعرف اختصارا بكتاب “الحيل” على مخططات لمائة آلة ميكانيكية وتوضيحات لكيفية صنع كل واحدة منها. ولقد وصف الجزري آلات رفع المياه التي تظهر الوعي بالحاجة إلي تطوير آلات ذات قدرة فعلية أكبر من الآلات التقليدية.

ويؤكد جون فريلي على أن كتاب الحيل للجزري أصبح كتاباً مرجعياً في علم الميكانيكا والآلات الميكانيكية ذاتية الحركة، وقد ظهرت بعض مخترعاته فيما بعد في الغرب.

وقد قام الجزري بتصميم خمس آلات لرفع المياه تعمل بقوة جريان الماء في مجراه الطبيعي وقد جعلها الجزريّ ذات تصميمات مختلفة لتناسب الارتفاعات المتباينة التي يلزم نقل الماء إليها، وقد تركت هذه الآلات بصمة واضحة على تاريخ صناعة الآلات في العالم، وكذلك وصف الجزريّ النموذج الأول للمضخة المائية التي مهدت السبيل لابتكار المحرك البخاري وآلات الضخ التي تعمل بالمكابس أو الأسطوانات المتداخلة.

وكانت الآلة الأولى فيها تحسين كبير لعمل الشادوف، وهي آلة تدور بقوة الحيوان كما هو الحال في الساقية وتستخدم الآلة رافده قناة صناعية؛ حيث تتصل قناة مفتوحة بمجراف يمتد مزرابه إلى قناة اصطناعية وذلك عوضًا عن استخدام سارية.

ينغمر المجراف تحت المياه وعندما ترتفع القناة الصناعية تتدفق المياه عائدةً عبر القناة وتنساب إلى نظام الري. وكانت الآلات تعمل بقوة الحيوانات مثل الساقية. والجزء الذي يغرف الماء عبارة عن مغرفة لها ذنب طويل أجوف كالميزاب، والمغرفة مربوطة عند نهاية ذنبها بمحور أفقي بحيث إنها تتحرك معه، ويحمل المحور عند أحد طرفيه ترسًا ويوجد بمحاذاة هذا الترس ترس جزئي يحمله محور مواز لمحور المغرفة، وفي الطرف الآخر لهذا المحور الثاني ترس رأسي يديره ترس أفقي، وهذا الترس الأخير يديره الحيوان المربوط بعمود الجر، يدور الحيوان في مسار دائري كما هو الحال في الساقية، ويدير زوج دواليب المسننة -بالتالي- المسنّن الجزئي، وتتعشق أسنان هذا الأخير بالمسنن المقابل وتديره، وترتفع المغرفة إلى الأعلى وتفرغ محتوياتها من الماء إلى القناة، وعندما ينتهي تعشق الأسنان الجزئي، تسقط المغرفة ثانية إلى الماء لتمتلئ وتتكرر العملية باستمرار، ونجد أن الجزريّ يصف لأول مرة الدولاب المسنن جزئيًّا، وقد استخدم هذا النوع من المسننات في أوروبا بعد حوالي مائتي عام من تاريخ كتاب الجزريّ.

والآلة الثانية للجزريّ مماثلة للأولى، إلا أنّها مزودة بأربع مغارف، ويحرك كل مغرفة مسنّن جزئي، وكانت الأسنان الجزئية موزعة بالتساوي على محيط الدائرة بحيث تقوم المغارف بعملها في مسافات زمنية متساوية، ويقول الجزريّ إن هذا التوزيع يجعل عمل الآلة أكثر هدوءًا، ونحن هنا أمام نفس مبدأ عمود الكامات في المحركات والضاغطات الحديثة.

وتعد الآلة الثالثة للجزري تطورًا للساقية؛ حيث إن قوة المياه حلَّت محل قوة الحيوانات، فقد أدارت المياه الجارية عجلةً مائيةً تؤدي عبر نظام تروس عمودي إلى رفع المياه من خلال سلسلة من الإناء. ولقد وجدت مثل هذه الآلة على ضفة نهر يزيد بدمشق (في القرن الثالث عشر) ويعتقد أنها لبت احتياجات مستشفى قريب.

تم استخدام رافدة قناة صناعية في الآلة الرابعة أيضًا والتي كانت تعمل كذلك بقوة الحيوانات. ولقد تحركت الرافدة إلى الأعلى وإلى الأسفل بفعل آلية معقدة تتضمن تروسًا وذراع تدوير. ولقد كانت تلك هي أول حالة معروفة يستخدم فيها ذراع تدوير كجزء من آلة؛ حيث إن أول ظهور لذراع التدوير كجزء من آلة في أوروبا كان في القرن الخامس عشر ميلاديًّا.

وكانت الآلة الخامسة للجزري، والتي كانت تتكون من مضخة تعمل بقوة المياه تمثل تغيرًا جذريًّا؛ حيث كانت تقوم عجلة من المياه بتدوير ترس عمودي يقوم بدوره بتدوير عجلة أفقية تتسبب في تذبذب مكبسين نحاسيين متقابلين، وتتصل أسطوانات المكبسين بأنابيب الامتصاص والتصريف؛ حيث تقوم صمامات متمطقة وحيدة الاتجاه (بها مفصلات في إحدى النواحي) بالحفاظ عليها. وكانت أنابيب الامتصاص تقوم بسحب المياه من حوض مجود بالأسفل في حين تصرف أنابيب التصريف المياه إلى نظام الإمداد الواقع على علو 12 مترًا فوق الآلة.

وتعد هذه المضخة نموذجًا أوليًّا لمبدأ ازدواج الفعل (بينما يقوم أحد المكبسين بسحب المياه يقوم الآخر بالتصريف)، والتحول من استخدام المُدور إلى استخدام الحركة الترددية.

مضخة المياه التي تسمح باستخراج المياه من البئر بواسطة نظام تروس يتحرك بدفع الحيوان لها.

من مخطوط الجزري: الجامع بين العلم والعمل، دار الكتب والوثائق القومية المصرية، تيمور 37

مضخـة تردديـة من تصميـم الجـزري

كما ابتكر الجزري أيضًا، عددًا من النوافير أو الفوارات لحدائق القصور في زمانه بشمال العراق، كذلك ابتكر الجزري عددًا من آلات التحريك للأشياء، وابتكر أيضًا دواليب ترفع المياه من البحيرات والآبار والأنهار، ومن بين ابتكارات الجزري؛ آلة ترفع الماء إلى نحو عشرين ذراعًا بواسطة دولاب من الماء السريع الجريان، وابتكر زورقًا متحركًا يوضع في بركة في مجالس السمر الليلية، وابتكر آلة ترفع الماء من بئر أو نهر بواسطة دابة تديرها لتمد الأراضي الزراعية بالمياه، وابتكر فوارة ذات عوامتين، تتبادلان العمل صعودًا وهبوطًا دون توقف أو انقطاع، فيستمر الماء في التدفق إلى أعلى، وابتكر تمثال بقرة على قرص عمود مجوف موضوع في وسط بركة، وتدير هذه البقرة دولابًا يرفع الماء من البركة إلى ارتفاع يصل إلى أكثر من مترين، وقد أبدع الجزري في رسم أشكال هندسية رائعة الجمال كان الصناع ينفذونها ويزينون بها أبواب المساجد والقصور.

كان علم الجزري أساس لنهضة العالم العربي ثم تحولت هذه النهضة إلى أوروبا. فقد اعترف العالم لين وايت والكثير من علماء الغرب أن الكثير من تصاميم الآلات التي ابتكرها الجزري قد نقلت إلي أوروبا، وان التروس القطعية ظهرت لأول مرة في مؤلفات الجزري.. وأنها لم تظهر في أوروبا إلا بعد الجزري بقرنين في ساعة جيوفاني ديدوندي الفلكية.. كما كان الجزري أول من تحدث عن ذراع الكرنك. كما ابتكر الجزري في آلات رفع المياه. وفي استخدام الكرات المعدنية للإشارة إلي الوقت في الساعات المائية.

ومن الثابت أنه خدم في بلاط ملوك “ديار بكر” التركمانيين الذين كانوا تابعين للدولة الأيوبية في عهد مؤسسها “صلاح الدين”، وقد رفعته خبرته العلمية وقدراته الابتكارية في الاختراع والإنشاء إلى مرتبة “ريّس الأعمال” أي كبير مهندسي الدولة.

كان تأمين الماء من أجل الشرب والريّ وللأغراض المنزلية والصناعية، أمرًا حيويًّا في البلاد العربية والإسلامية؛ لم تكن هناك أمطار غزيرة وأنهار وجداول كثيرة كما هو الحال في شمال أوروبا، والمناطق التي كانت تهطل فيها الأمطار بكميات وفيرة تكفي للزراعة دون الحاجة إلى الريّ، ومن هنا تحتاج عمليات الري في كثير من الأحيان، إلى وسائل لرفع الماء لتلبية الحاجات الأساسية كالشرب والطبخ، أو لتزويد الأراضي الزراعية بالمياه اللازمة للزراعة.

كما قام الجزري باختراع عمود الكامات (Camshaft)، وهو العمود الذي يدور بضغط مكابس المحرك فتتولد قوة دافعة للأمام كما يحدث في محرك السيارة. استخدم الجزري هذه التقنية في بناء مضخات مياه دافعة وساحبة، تمتعت بتقنية الحركة الذاتية من دون قوة دفع بشرية أو حيوانية، كما استخدمها في صناعة تحف ميكانيكية الحركة غالبا على شكل طاووس حيث استخدمت في قصور بني أرتق، أحد السلالات التركية التي حكمت منطقة ديار بكر بتركيا، الذين كان الجزري يشغل منصب كبير المهندسين في بلاطهم.

عمود الكامات للجزري

تلقف الأوروبيون اختراع الجزري بعد قرنين، وبنوا عليه حتى توصلوا إلى اختراع المحرك وبدأ عصر القطارات البخارية، التي كانت العمود الفقري لعصر النهضة والثورة الصناعية الأوروبية في القرون الوسطى.

ونختتم بمقولة المستشرق والمهندس الإنجليزي دونالد هيل Donald Hill: “من الصعب المبالغة في تأكيد أهمية عمل الجزري في تاريخ الهندسة. إنه يقدم ثروة من التعليمات المتعلقة بتصميم الآلات وتصنيعها وتجميعها”.

https://anbaaexpress.ma/ziw5h

د/ أنور محمود زناتي

أكاديمي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى